Thursday 28th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    28-May-2020

محنة الروائي وانشغالات الناقد الأدبي

 القدس العربي-لطفية الدليمي

صار بمثابة عُرفٍ طقوسي راسخ لديّ منذ سبعينيات القرن الماضي، وبدفعٍ من موجبات اشتغالي الروائي – والسردي بعامة – أن أتابع بالقدر المستطاع ما يُنشرُ في حقل النقد الروائي، الذي طاله خفوت لا يمكن نكرانه، وقد سبق لي أن تناولتُ هذا الخفوت في مقالة حديثة لي عنوانها «خفوت صوت الناقد الأدبي»، لكن رغم هذا الخفوت ثمة أصواتٌ قليلة لا يمكن للمرء سوى متابعتها والتفكّر في طروحاتها النقدية، وأحسبُ أنّ صوت الناقد العراقي حسن سرحان، واحدٌ من هذه الأصوات التي يمكن التفاعل معها، وتحصيل الفائدة من رؤاها النقدية.
دأب سرحان على نشر مقالاته النقدية في صحيفة «القدس العربي» منذ بضع سنوات خلت، وقد نشر فيها حتى هذه اللحظة التي أكتب فيها هذه المقالة، اثنتين وعشرين مقالة توزّعت على أطياف متباينة من الاهتمامات السردية، والحقّ أن كل مقالة منها تستحقُّ خوض مشاكسة مفاهيمية وعملية، تبدأ من تأصيل نظرية السرد وطرائقه، ولا أظنها، تنتهي بمقاربة الحيثيات الصغيرة في الصنعة الروائية، وقد كنتُ في كلّ قراءاتي لمقالات سرحان عاكفة عن خوض مثل هذه المشاكسات النقدية، ومكتفية بالاستمتاع بما أقرأ، لكن ما قرأته في المقالتين الأخيرتين بشأن «السرد المستحيل» و«السرد المشكوك فيه»، حفّز فيّ مجسّاتي الروائية، ودفعني دفعاً لا سبيل لكبحه لكتابة هذه المقالة.
أظنّ أنّ من المناسب للقارئ الشغوف بأفانين السرد، أن يعود لقراءة مقالتَي حسن سرحان قبل مواصلة قراءة هذه المقالة، ومفادُ المقالتين، أنّ «السرد المشكوك فيه والسرد المبهم – إضافة إلى السرد المستحيل – يعدُّ من المشكلات المتأخرة من ناحية اهتمام البحث السردي بها، إذ لم يبدأ الحديث عنها إلا قبل فترة قريبة جداً، بعد أن شكّلت هذه الظواهر حرجاً وتحدياً لم يعد بالإمكان أن يتجاهلهما الباحثون والدارسون»، وفي الوقت الذي يؤكّد فيه سرحان أنّ لعبة التخييل الروائي خليقة وقادرة على منح الروائي مساحة من المناورة والمراوغة، في نطاق الوقائع الفيزيائية المشخّصة وملاعبتها في إطار لعبة التخييل الروائي، التي تعدُّ الانعطافة الثورية الكبرى، التي ابتدعها العقل الروائي، لكنه يردف قائلاً «بالنسبة للمبدعين، لا غضاضة في أن يتكلم الموتى ولا جُناحَ في أن يسرد الحكاياتِ فاقدو أو ضعيفو الذاكرة والمصابون بالهلوسة والانفصام وغيرها من الأمراض العقلية. المشكلةُ تخص علم السرد أكثر من غيره فهو الملزَمُ بدراسة هذه المظاهر الجمالية «الغريبة» لكي يبتني لها الفضاء التنظيري المناسب. ما درج عليه بحثُنا النقدي العربي هو عدم التوقف أمام هذه «الخروقات» باعتبارها جزءاً من لعبة التخييل، التي لا تسبب ضرراً لأحد. هذا الموقف، برأيي، سلبي، ويجب عدم القبول به والرضوخ إليه، وما محاولاتي اليسيرة سوى جهدٍ أوّلي في سبيل «عقلنة» هذا السرد الروائي».
الأصل في أي فعالية سردية هو تخليق حكاية واقعية أو ميتافيزيقية، يبتغي الكاتب تمريرها للقارئ. الحكاية لوحدها لا تصلح لتشكيل جسم روائي وإلا صارت حدّوتة عادية، شبيهة بتلك المرويات الشفاهية التي تتناقلها الجماعات البدائية، هنا لابدّ من تعزيز الحكاية بجسم معرفي يمثل خبرة الكاتب ورؤاه في ثيمات محدّدة، تتناول الأسئلة الوجودية الكبرى في الحياة (معنى الحياة والوجود البشري، الأخلاقيات، الحب، الموت، المشاركة الوجدانية مع الآخرين)، وما من ضرورة موجبة لكي تظهر هذه الأسئلة بصورة عناوين فاضحة وكأننا أمام أطروحات فلسفية منكشفة، بل يحصل في الغالب أن تتقنّع هذه الأسئلة في حيثيات صغيرة تمثّل بعض قدرة الكاتب المحترف والمتمرّس في خبرته السردية.
عندما يجلس الكاتب ليكتب عملاً جديداً وهو يحدّق في تلك الصفحة البيضاء أمامه (كم هي مرعبة لحظة الشروع تلك) فإنه لا يستحضرُ مفردات علم السرد ونظرياته التي قرأ عنها، بل يتراءى له سؤالان جوهريان: ما الذي أريد قوله للقارئ؟ وأي الوسائل ينبغي عليّ اعتمادها في تمرير هذا الذي أريد لقارئي أن يقرأه؟ وما العمل الختامي لأي كاتب سوى حصيلة جهده المستديم للإجابة عن هذين السؤالين. تقصّدتُ حتى الآن الكتابة عن الروائي وهو منصرف للكتابة في مشغله الروائي، والكاتب وحده هو من يعرفُ مكابدات الصنعة الروائية، لأنه يحترق داخل أتونها الذي يشبه مفاعلاً ذرياً مسيطراً عليه.
 
العقل السردي هو عقل ميتافيزيقي بالضرورة، والخصيصة الميتافيزيقية هنا هي إشارة رمزية وإجرائية، إلى أنّ هذا العقل لا يقبل بالمحدوديات الذهنية والفيزيائية المعروضة أمامه، ويسعى دوماً لتجاوزها بطريقة خلاقة، ويرى دوماً أن الثراء الميتافيزيقي غير المنظور لهو أهمّ بكثير من الحقائق (الصلبة) على الأرض.
 
أتناول الآن مقالة حسن سرحان بملاحظات مشخّصة، وأبدأ من مفردة (العقلنة): هل نحنُ في حاجة لعقلنة السرد الروائي، مهما غالى وتغوّل في رؤاه الفانتازية؟ لا تجتمع العقلنة والرواية على سطح واحد، بل ينبغي لنا أن لا نعقلن الفعل السردي لأسباب تختصُّ بالحفاظ على حيوية السايكولوجية الجمعية، ومنعها من الانزلاق نحو مهاوي الخمود المهلك. كانت الأسطورة – وكل ما يمت لها بصلة، إضافة للحكايات الشفاهية – ضرورة حاسمة للحفاظ على التوازن الرقيق الهش بين روح الإنسان البدائي وبنيته الذهنية والسايكولوجية، الأمر الذي وفّر لهذا الإنسان الوسيلة والقدرة لتجاوز محدوديات وجوده الفيزيائي، والتفكير بآفاق أبعد من مجرد البحث عن متطلبات أمنه الجسدي، وحاجاته البيولوجية البدائية، وأمسى وجود الأسطورة والملاحم لدى كثير من الشعوب الحية، وسيلة فعالة للترابط الروحي بين أبناء الشعب الواحد، وصار محفزاً فعالاً للنظر في موروث إنساني مشترك، تتأسس عليه فكرة المواطنة والانتماء المحلي والإنساني. غدت الرواية اليوم الوريث الشرعي للأسطورة، لقدرتها على توفير المحفزات اللازمة لإدامة شعلة التخييل البشري، ودفعها نحو آفاق لم تكتشف بعد، ومساعدتنا على تجاوز عوامل الكبح واليأس والإحباط التي يحفل بها عالمنا.
أتساءل في جانب آخر: هل أنّ الموتى وفاقدي أو ضعيفي الذاكرة والمصابين بالهلوسة والانفصام وغيرها من الأمراض العقلية، هم وحدهم الذين تجري على ألسنتهم وقائع تنطوي على مستحيلات سردية أو مبهمات سردية أو وقائع سردية مشكوك بها؟ وهل أنّ القارئ يهتمُّ بمعقولية السرد ومطابقته للمُمكنات الواقعية في المقام الأول، قبل النظر في الخبرة التي يريد الكاتب تمريرها له؟ يسعى معظم الكُتّاب المعاصرين المرموقين إلى ابتداع ما يمكن تسميته (عوالم متوازية) يخلقون فيها حيوات كاملة ليس لنا عهد بها، وينطوي هذا الفعل على قيمة تنبؤية بالمستقبل، فضلاً عن استشراف مآلات الوجود البشري. يتّخذ البحث الاستقصائيّ الروائي هذا شكل محاولة الإجابة عن سؤال افتراضي يبدأ بعبارة (ماذا لو؟): ماذا لو أنّ الروبوتات كسرت قواعد ( أسيموف ) الثلاثة وعُقِد لها لواء الهيمنة على الوضع البشري؟ ماذا لو أنّ الفقر البصريّ الطبيعيّ الملازم لتعاظم السلطة الافتراضية للتقنية الرقمية، بلغ حدوداً تاخمت حالة الاكتئاب الرقميّ الجمعيّ؟ ماذا لو ألغِيت سلطة المرجعيات الحاكمة كافة (أب، أم، منزل، حكومة، مجتمع، كيانات مؤسساتية) وبات الفرد يحتكم لمرجعيته الذاتية المطلقة؟ إنّ كلّ من يقرأ الروايات المعاصرة التي كٌتِبت في العشر سنوات الأخيرة سيشهد مصداقاً حاسماً لهذه الحقيقة ( إيان ماكيوان مثالاً)، وأظنّ أنّ الكثير من هذه الروايات لن تجتذب القرّاء الذين اعتادوا الارتخاء بين أحضان روايات الواقعية التصويرية، وسيتطلّب الأمر منهم جهوداً غير مسبوقة ونوعاً من إعادة تأهيل ذائقتهم وخبراتهم، لكي تتناغم مع الروايات المعاصرة.
أرى من جانبي، أنّ العقل السردي هو عقل ميتافيزيقي بالضرورة، والخصيصة الميتافيزيقية هنا هي إشارة رمزية وإجرائية، إلى أنّ هذا العقل لا يقبل بالمحدوديات الذهنية والفيزيائية المعروضة أمامه، ويسعى دوماً لتجاوزها بطريقة خلاقة، ويرى دوماً أن الثراء الميتافيزيقي غير المنظور لهو أهمّ بكثير من الحقائق (الصلبة) على الأرض، ويوظّف في سعيه هذا عدداً من الوسائل يأتي في مقدمتها: تعزيز رصيد الرؤية الميتافيزيقية لديه، واعتبارها أثمن وأعلى مقاماً من الحقائق والنظريات الراسخة (بما فيها العلمية أيضاً)، والنظر إلى الحياة البشرية على أنها شبه حلم يقظة لذيذ يعمل على شحن طاقات الإنسان الخلاقة، ويدفعها باتجاه تحقيق مفردات الرؤية الميتافيزيقية، أو بعضها في الأقلّ. ثمة في موضع ما من مقالة سرحان بشأن (السرد المشكوك به) تمييز بين السارد الموثوق به والسارد غير الموثوق به، ثم يردف الدكتور سرحان هذا التمييز بمعايير إجرائية، يبدو الأمر معها وكأننا في أزمة ثقة أزلية بين السارد والقارئ، وأنّ إحدى المهمّات الاستراتيجية للسارد هو أن يحوز رضى القارئ وقناعته بالتأصيل الواقعي للوقائع السردية. لستُ أعتقدُ أنّ أياً من الروائيين المعاصرين وضع مسألة (الثقة) هذه في اعتباره، أو حتى فكّر بها، باعتبارها هاجساً مؤرقاً له، كما لا أرى أنّ الأدبيات الخاصة بالنظرية السردية تفردُ مساحة محدّدة تتناول فيها الكيفية العملية التي يمكن بها للسارد حيازة ثقة القارئ، إذ لا معنى إجرائياً لمفردة الثقة هذه. ثمة فكرة (هي خبرة في نهاية المطاف) يسعى الكاتب لتمريرها للقارئ، عبر وسائط سردية محدّدة، والقارئ يتلقّى هذه الخبرة التي ستكون فاعلة فيه، تبعاً لخبراته الوجودية وترسيمته السايكولوجية، التي لا تتقاطع مع خبرة السارد، وبعكس هذا سيحصل التقاطع بالضرورة.
أودّ في الملاحظة الختامية أن أشير إلى أنّ الأنماط السردية، التي أشار لها سرحان في مقالتيه لم تشكّل مادة تتناولها الأدبيات الخاصة بالسرد، ولم يجرِ التعامل معها باعتبارها مثلبة سردية، أو مزية محمودة، تُضافُ للثراء السردي، ويمكن للقارئ الشغوف، وفي واحد من الخيارات الممكنة، مراجعة الكتاب المرجعي المعنون: مقدّمة كامبردج في السرد
Cambridge Introduction to Narrative
الصادر عام 2008، وفيه سيدرك أن نظرية السرد تتعامل مع مفردات ذات طبيعة تقنية خالصة.
العقل الروائي إذ يحدّق في الورقة البيضاء أمامه يعمل بكيفية متمايزة عن العقل الأكاديمي، تلك حقيقة أراها شاخصة أمامي، ولستُ أرى فيها عيباً أو منقصة لكلّ من الروائي والناقد، ولا أظنها ستفسدُ ودّاً مستديماً وراسخاً أحمله لحسن سرحان الذي يجاهد لتكون له مكانة مستحقة في حقل النقد الأدبي.
 
٭ روائية ومترجمة عراقية مقيمة في الأردن