Friday 19th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    22-Jan-2021

إنّــــي أراكَ

 الدستور-نايف النوايسة

لم يعدِ السكوت مُجدياً في مثل هذه الحالة..
شكواهن تجاوزت حدود الهمس إلى التذمر والبكاء..
هذا اليوم تحديداً قررت أن يكون يوماً فاصلاً في مواجهة هذه المشكلة التي بلبلت المؤسسة، ومحاصرة لص الحقائب في أضيق الزوايا..
الأصابع تُشير إلى شخص ما، لكن لا دليل..
كل شخص في المؤسسة متهمٌ إلى أن أصل للص الحقيقي..
عدتُ إلى مكتبي من جولة خارج المؤسسة.. لاقتني السكرتيرة بوجه حزين والدموع بعينيها.. دققت بوجهها، وأشّرتُ بيدي إشارة الاستفهام، فقالت: حقيبتي الآن سُرقت، ولليوم العاشر أجدها مفتوحة، وما بقي شيء من راتبي.. هدأتُ من روعها ووعدتها بأن أحل مشكلتها اليوم.
دخلت مكتبي ولم أجلس.. اقتربت من النافذة وسرّحت النظر بعيداً مع الناس الذين يمرون من هنا وهناك، والسيارات التي لا تكف عن الضجيج.. الضجيج في رأسي يعلو فوق كل شيء.. هذا اللص يتحداني ويتحدّى المؤسسة.. قلّبت الأمور على وجوهها..
لا بد من وضع حد لهذه المهزلة..
ركّزت عينيّ على مرآة مركونة بجوار النافذة.. أنا لم أطلب هذه المرآة فهي من بقايا المدير السابق الذي كان مصاباً بهوس مراقبة حركة الموظفين من خلالها.. هي تواجه الباب وقد تخدمني الآن في كشف اللص..
مثل نسمة تغشاك من حيث لا تدري رأيته ملتصقاً بالباب.. كان ينظر نحوي نظرة الأفعى المتربصة.. عامل البريد هذا إما أن يكون إنساناً بليداً أو أنه كائن غامض ينطوي على شيء خبيث.. استبعدت صلته بالسرقة وإن كانت إشارات الموظفات تتجه إليه.
استدرت لأراه فسألني: هل تريد قهوة؟ قلت له: لا. وصرفته.. جلست إلى مكتبي، ووضعت رأسي بين يدي.. صداع عنيف يجتاحني.. رفعت رأسي فوجدت العامل في الممر في هستيريا من المشي؛ جيئة وذهباً.. حذاؤه مطاطي لا يكشف حركته.. صوته في الغالب كالفحيح، ويباغتك من حيث لا تدري، وتحتار من أي سماء يهبط عليك.. يا تُرى هل تصح الشائعات أحياناً؟ لا، لا، إنه يصلي معنا، وهل بعد الصلاة مظهرٌ يُبعد الشك عن الشخص؟
عليّ أن أتثبت من كل شخص حتى لا أظلم أحداً، فلأُجرّب هذه الحيلة التي قدحت في ذهني.
ناديت السكرتيرة وكانت محمرة العينين من البكاء.. سألتها: أكلُّ زميلاتك تعرضن للسرقة مثلك؟ فهزت رأسها موافقة وقالت: نعم. قلت لها بهدوء الواثق: خذي ورقة صغيرة واكتبي عليها بخط كبير واضح (إنّي أراك) واشبكيها خلف هذه (الخمسة دنانير) وضعيها كالمعتاد في حقيبتك واتركي الحقيبة نصف مفتوحة، واطلبي من زميلاتك أن يفعلن مثلك ثم غادري مكتبك ولا تعودي إلاّ حين أطلبك.. فعلتِ السكرتيرة ما طلبت منها..فخ لعله يفيد.
خلت الساحة للفاعل.. خرجتُ من مكتبي بكل هدوء.. أنظر وأتربص خفية دون أن يشعر بتدبير أحد.. الأمور بدت عادية.
جلست في مكتب مقابل لمكتب السكرتيرة.. راقبت الجميع وبدأتُ بتصنيف تصرفات الموظفين الأقرب لاغتنام فرصة السرقة.. كان هو أكثر حركة واقتراباً من مكتب السكرتيرة.. يتلفت مثل قط صيّاد.. عيناه تجوسان الزوايا والمداخل بحذر.. فمه المغلق يكتم أنفاساً وراءها نبأ عظيم.. هكذا خُيّل لي..
قد تفلح خطتي إن لم يشغلني شاغل.. الصمت يستولي على الجو.. كنت انتظر والثواني مثل الجبال..
وقف بالقرب مني عدة مرات ويمضي ويعود.. عيناي لم تفارقاه، وحرصت أن أنظر إليه من طرف خفي.. كان يروغ كما يروغ الثعلب.. وأحياناً يمشي مثل فأر مذعور..
فجأة، وقف بباب غرفة السكرتيرة وتلفت يمنة ويسرة.. ركّز عينيه عليّ فأشعرته بالطمأنينة، وغاص في جوف المكتب.. فقلت في نفسي: وقع الفأر في المصيدة.. اقتربت من الباب مثل عُقاب حوّام وبرشاقة وحذر أطللت من شِق في الباب..
يداه تعبثان في الحقيبة.. أخرج الورقتان، وقرأ العبارة(إني أراك)، فانتفض كالملسوع والتفت خلفه فوجدني وراءه.. حاول إعادة الورقتين، فابتسمت.. رمى رأسه في الأرض، وأراد الخروج، فأشرت له ليتبعني داخل المكتب..
دخل يجر رجليه كالجريح، وطلبت منه أن يُغلق الباب ويجلس.. كان مطأطئ الرأس، وعيناه لا تبارحان حذاءه.. قلت: إذاً، أنت هو؟! هزّ رأسه موافقاً وهو يرتجف.. قلت: ما الحكاية يا سلّوم، تُصلّي معنا، وتبدو أخلاقك عالية، ومتزوج، ومعك سيارة، يعني أنت غير محتاج.. وتسرق؟!
رفع رأسه بتثاقل شديد، وواجهني بوجه باهت القسمات وبعينين مخطوفتين كمن يتعاطى المخدرات، وقال وهو يُتأتئ: السرقة نبتت معي وأنا صغير.. كانت أمي تخفي نقودها في حقيبتها وإذا أعطت أخوتي شيئاً منها حرمتني، فأحسست بالمذلة فكرهت أمي، وصممت على الانتقام.. كنت أسرق ما في حقيبتها وأمزقه دون ندم، ثم فعلت ذلك مع صديقاتها، ومع مرور الزمن صرت أرى كل امرأة تشبه أمي، فأسرق ما في حقيبتها.. قلت له: اسكت يا سلّوم.
أشفقت على سلّوم، وأدركت أنني أمام مريض لا لص.. قال فجأة وهو يخرج نقوداً من جيبه: جيبي عامرة بالنقود، وما أسرقه من(النسوان) أمزقه فوراً.. نزلت دمعات من عينيه..
دنوت منه وطبطبت على ظهره وقلت: هل تعاهدني على ألاّ تعود إلى السرقة وأنا أسامحك ولا أفضحك لا بل أجعل منك موظف مكتب لا عامل بريد؟ نظر إلي كالذي أُزيحت من فوق صدره صخرة ثقيلة، ودنا من المصحف ووضع يده عليه وقال: أُعاهدك.
قلت له: يا سلّوم بدايةً أعد المبالغ التي سرقتها من زميلاتك بالطريقة التي كنت تتبعها في السرقة، وعليّ أن تكون في المكان المحترم، وابدأ من السكرتيرة.
عانقني بحرارة وهمس في أذني: أنت إنسان، سيكون كل شيء كما أردت.. غادر مكتبي بِخِلْقَةٍ جديدة..
ابتسمتُ مرتاحاً، اتصلت مع السكرتيرة لتعود، فجاءت راكضة وهي تبتسم وقالت: مسروقاتي رجعت.. ضحكتُ وطلبت منها أن تتأكد من مسروقات زميلاتها..