Saturday 20th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    04-May-2020

التناص في مجموعة «يوسف في البئر» ليوسف حامد أبو صعيليك

 الدستور-موسى إبراهيم أبو رياش

«يوسف في البئر» مجموعة قصصية للقاصي وسف حامد أبو صعيليك، تتكون من خمس عشرة قصة قصيرة: وضاح... النسر، الحلم، أهل القلعة، الأحدب، يوسف في البئر، الوهم، السنديانة، انتحار رجل عادي، الثابت الوحيد، (هو) المجنون، فاتيما، عندما يعود الأمل، رماد جسد، التألم صمتًا، البائع. ومن أربع باقات تتضمن 19 قصة قصيرة جدًا هي: نفحات أندلسية، شظايا، اغتراب، القطار.
 
اللافت في هذه المجموعة، توظيف التناص بشكل رائع، مع براعة في غزل الحكاية بشكل مغاير، فالقاص يستخدم التناص واستدعاء الأسطورة والتاريخ والرواية وغيرها؛ لتشريح واقعنا البائس، وفضح عيوبه وآفاته، بلين أحيانًا، وبقسوة في معظم الحالات.
 
التناص يعني وجود تشابه بين نص وآخر أو بين عدة نصوص، أي وجود علاقة بين نص الكاتب ونصوص أخرى؛ بتأثير ثقافته واطلاعه ومسموعياته، وأي نص عند جوليا كريستيفا لا يُبنى من الصفر، بل هو نتاج عملية هضم ومزج وتأثير نصوص سابقة. ويؤيد ذلك رولان بارت بقوله «كل نص هو تناص»، ولكن العلاقات التي تربط نصًا بنص قد لا تكون واضحة، وهذه مهمة الناقد، وكلما كانت ثقافته أكبر وأعمق، وإطلاعه أوسع، كانت قدرته على كشف العلاقات أكبر وأدق.
 
ومما لا شك فيه، وجود اختلافات بين تناص وتناص، وأجمل أنواع التناص ما كان عن وعي وإدراك، حينما ينسج الكاتب نصًا إبداعيًا جديدًا دون أن يخفي أو ينكر علاقته بالنص الأصلي لحكايته، وليس بالضرورة أن تكون العلاقة واضحة صريحة، ولكن القارئ يشعر بها ويتلمسها من خلال القراءة الواعية للنص.
 
اتكأ عدد كبير من قصص المجموعة، على نصوص أو أحداث، ومن المؤكد أن بقية القصص لها تعالقات لم نتبينها مع نصوص أخرى، وقد أخذنا أبو صعيليك في نصوصه إلى اتجاه مختلف، ونهاية مغايرة مفارقة لكل توقعاتنا، وهي السمة الرئيسة التي تميز هذه المجموعة، التي تنم عن وعي، وسعة ثقافة، وقدرة إبداعية على التوظيف، وهضم النصوص، وإعادة إنتاجها من جديد.
 
ويمكن تقسيم القصص المتناصة إلى ست فئات، هي:
 
أولًا: التناص مع قصص القرآن الكريم
 
نسجت قصة «وضاح... النسر»من تناصات متعددة؛ فهناك الأحلام المهلكة، والأقداح التي تضرب، ومدن الملح ومدن السراب والوهم، وإرم ذات العماد، ولكن التناص الأبرز مع قصة حبيب النجار (مؤمن آل ياسين) التي وردت في سورة يس، إذ ذهب الفتى وضاح يبحث عن حلمه بعد يأسه من واقعه، فهلك حصانه، وصدته أسوار مدن السراب، ومات ودفنته أكوام الملح، وما زال نسر يحلق في فضاء قريته، يذكرهم بوضاح، بل واعتبروه وضاحهم بعد أن أضاعوا وضاحًا. وهي قصة تجلد الواقع البائس، وتدين الجميع دون استثناء.
 
تعالقت قصة «يوسف في البئر» بشكل قوي مع قصة يوسف عليه السلام، حيث كان الجميع بمن فيهم أمه راحيل وأخوه بنيامين يساومونه أن يصبح ذئبًا مثلهم ليخرج، ولكنه رفض أن يضحي بإنسانيته، وفضل البقاء في البئر. يستفتيه بنيامين في حلم رآه، فيرى فيه يوسف موته ونهايته، وهذا ما كان.
 
في قصة «بدرونيات» نجد علاقة مع قصة يوسف عليه السلام، حيث لم يحتمل بدرون وحشية أبناء يعقوب، وصلب نفسه، واختتمت: «سقطت إحدى عشرة دمعة على خد القمر».
 
أما قصة «الحلم»، ففيها تناص رائع مع حلم فرعون وتأويل يوسف له، في لعبة سردية مدهشة، واخزة للواقع والفساد المستشري، ومصير من يسلم نفسه ورأيه وعقله للبطانة من حوله دون بصيرة أو يقظة أو حزم، فضاع الفرعون، ومات يوسف، وعمت المجاعة، وأكل الدود القمح في صوامعه «أيها القادم من ظلمات الذاكرة، لقد نسجت العنكبوت نسيجها على ذاكرتك، ألم تعلم أن الدود الآن... هو الحاكم المطلق؟».
 
يستيقظ أحد رجال أهل الكهف في قصة «رجل الكهف»، فلما يجد ما بأمته من ذل واستكانة وضعف وهوان يطلق النار على رأسه، وارتباط هذه القصة واضح مع قصة أصحاب الكهف، الواردة في سورة الكهف.
 
ثانيًا: التناص مع التاريخ القديم
 
في قصة «الوهم»، التي تتشابه مع سيرة زرقاء اليمامة، تحذرهم العجوز من الجراد القادم، لكنهم يسخرون منها، فهم مشغولون بأعراس الملك التي لا تنتهي، ترى نذر شر إذ يقدح الصوان بنفسه شررًا، فتخبر الملك بعد إصرار، فيقلع عينيها، ليستريح من تحذيراتها، فلم تستطع النوم، وناموا، فلم يصبح الصباح إلا عليها.
 
وتلقي قصة «انعتاق روح»، الضوء على مفاصل من حياة الشاعر طرفة بن العبد في صغره وعند موته، فقد روي أن المسيب بن علس أنشد، ومما قال:
 
وقد أتناسى الهم عند احتضاره *** بناج عليه الصيعريـة مكـدم
 
فقال طرفة، وكان يومئذ غلامًا: «استنوق الجمل»، وذلك لأن الصيعرية من سمات النوق دون الفحول، فغضب المسيب وقال: من هذا الغلام؟ فقالوا: طرفة بن العبد، فقال: ليقتلنه لسانه، فكان كما قال. وصار قول طرفة مثلًا. وكان نهايته بسبب جرأته واعتداده بنفسه؛ إذ أرسله ملك الحيرة عمرو بن هند، مع كتاب إلى عامله في البحرين ليقتله، ورفض طرفة أن يهرب مع أن الفرصة لاحت له مرات، لكنه كان يبحث عن الخلاص، عن «انعتاق الروح».
 
وتأتي قصة «غفوة ديوجينوس»لتستذكر الفيلسوف اليوناني ديوجينوس المشهور بمصباحه في وضح النهار، وتخففه من كل شيء، وتشرده وتسوله الطعام، ونومه في أي مكان، كانتقاد منه للأعراف والتقاليد والمجتمع الفاسد، ولكن القصة تعلن فشل دعوة وفلسفة ديوجينوس قديمًا وحديثًا.
 
ثالثًا: التناص مع تاريخ الأندلس
 
تتناص قصة الغافقي المعاصر في قصة «انتظار»مع قصة عبدالرحمن الغافقي في معركة بلاط الشهداء، فما زال الغافقي المعاصر ينتظر المدد ممن خلفه من الأهل والعشيرة والأمة، لكن الثلوج تتراكم، والصقيع يلتهم الوجوه، والنسور تحوم فوق جثث القتلى، والغافقي ينتظر.
 
في قصة «جرح»، ينعم الفونسو بعرش غرناطة وسرير الملك المذهب، ينام قرير العين، تحرسه الكلاب، ولا رائحة عربية في الأرجاء. فقد تخلى العرب عن فردوسهم قديمًا وحديثًا، وأسلموه لعدوهم، إن لم يكن تواطئوا عليه.
 
أما في قصة «تلة الدموع»، فيقف أبو عبدالله الصغير على تلة مشرفة على غرناطة، يبكي سقوطها، وأمه تقرعه:«أنت من ضيعها، اغسل بدموعك بعض خطيئتك، وليتها تستطيع، هذه دموع سوداء يا ولدي، سوداء». وينضم أبو عبدالله إلى قوافل المهاجرين التي لم تتوقف حتى اللحظة.
 
رابعًا: التناص مع التاريخ الحديث
 
في قصة «الثابت الوحيد»، يتغيب يوسف عن عمله؛ شوقًا إلى الأقصى والصلاة فيه، وعندما كان يصلي، اعتدت قطعان المستوطنين على المصلين، فاشتعلت انتفاضة الأقصى المجيدة، وسال دم يوسف، الدم الأحمر، «الثابت الوحيد» لتحرير الأقصى وما حوله.
 
ومن وحي مجازر البوسنة، كتبت قصة «فاتيما»، قصة الفتاة التي قُتل أبوهاعلى يد السفاح سلوبودان ميلوسوفيتش وعصابته، فشرد الآمنين، واغتصب العفيفات، وانتهك الحرمات ودمر البيوت، وأورث البلاد جرحًا نازفًا.
 
خامسًا: التناص مع القصص والروايات
 
تروي قصة «الأحدب»حكاية الأحدب الذي عرف الحقيقة، وهرب خوفًا من موت يترصده ممن لا يرونه جديرًا إلا بقرع الأجراس، فهم يحكمون على المظهر لا على الجوهر، ففر، ولسان حاله يقول «الجهل بالحقيقة عذاب، والعلم بها نار، وأنا بينهما أحترق». ونجد في هذه القصة أجواء رواية «أحدب نوتردام» لفيكتور هوغو، وطرفًا من قصة يونس عليه السلام الذي فر من قومه.
 
وفي تناص مع رواية «الأبله» لدستويفسكي، تحكي قصة «السنديانة» رجوع السندباد من غربته، فتساءل عن الخراب الذي حل بقريته، فأنكروا عليه سؤاله واهتمامه، ووصفوه بالأبله وأنه لم يتغير وأنه سيزعجهم ويعدي غيره، فحاكموه، وأخبره القاضي أنه ولد ليكون «نعم» فحسب، وخيروه بين النفي الأبدي والموت فاختار القرية، فعانق السنديانة في ليلته الأخيرة، «ولما أرسلت الشمس بناتها إلى الحقل في الصباح لتغسل الأشجار اصطدمت بشجرتي سنديان ضخمتين».
 
وفي قصة «القطار»، نسي المسافر حقيبته في القطار، فأقسم أن ينتظر عودة القطار على الرصيف، ومن يومها لم يعد القطار، وسيبقى منتظرًا كما انتظر غيره «في انتظار غودو» لصمويل بيكيت.
 
وتحضر قصة «النمور في اليوم العاشر» لزكريا تامر، في قصة «لاشيء»، ونصها: «قابلت «لا شيء» واقفًا في الطريق. قال لي: كنت نمرًا من نمور زكريا تامر». وهي خلاصة الإنسان المسخ المروض في ظل الأنظمة السياسية المختلفة، فكلها مارست ساديتها على الإنسان، وجردته من إنسانيته.
 
سادسًا: التناص مع الأساطير
 
تروي قصة «وراثة»، تعمد الحاكم قطع ألسنة الرعية، ومع الزمن ولد صبي دون لسان؛ مما أثار استغراب الجميع، ووجدوا على صدرة عبارة «إن العادة إذا تملكت الطبع، أصبحت بعد ذلك ميراثًا»، وهي قصة ناقدة لإخراس الناس وتكميم الأفواه، والتضييق على حرية التعبير، مما يولد جيلًا أخرس بلا ألسنة حقيقية. وهي تذكر بالقصة المعروفة حيث أمر الحاكم بقطع آذان الرعية، لئلا يكونوا أفضل من ابنه مقطوع الأذن.
 
في قصة «جفاف»، جف ضرع البقرة الأثيرة لدى فرعون، فلم يجدوا لها علاجًا، ووجد الطبيب على ضرعها عبارة «إذا ذهب العدل جف الضرع» وهي تتقاطع مع الآلهة الفرعونية «حتحور» التي كانت على شكل بقرة، وهي ربة الأمومة والخصوبة والحب والجمال، وهي التي أوت الإله «حورس ابن إيزيس»، ومن اسمها اشتق اسم شهر «هاتور» ثالث أشهر السنة القبطية التي ما زال معمولًا بها في مصر.
 
وبعد؛؛؛ فمجموعة «يوسف في البئر»، التي تتطلب مستويات متعددة من القراءة والتأمل، تؤكد أن كاتبها، يوسف أبو صعيليك، صوت قصصي متميز، يمتلك أدواته الفنية، ورؤيته الواضحة، وثقافته الواسعة، وقدرته على تشكيل النص ببراعة وإبداع، وينتظر منه المزيد لإثراء المشهد الإبداعي والقصصي على وجه الخصوص.