Friday 26th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    19-Jan-2021

محمد الحجوي ونهضة الفكر الإصلاحي في المغرب

 القدس العربي-رشيد أمديون

إن استحضار رواد الفكر الإصلاحي النهضوي العربي، خلال منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، الذين ولا شك أثروا بشكل واضح في حاملي مشعل الإصلاح بعدهم، من أمثال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وخير الدين باشا التونسي وقاسم أمين.. يجرنا إلى التفكير بموازاة ذلك في أبرز الإصلاحيين المغاربة، الذين شكلوا حلقة ثانية من حلقات رواد الإصلاح في العالم الإسلامي، خلال أوائل القرن العشرين، والذين اتجه همهم كسابقهم إلى استنهاض الهمم، من أجل بناء فكر تجديدي إصلاحي ينتشل المغرب من تخلفه ومن جموده، بتحرير العقول للمساهمة في نهضة الأمة، بدون التخلي عن الهوية الجماعية.
ومن بين هؤلاء برزت شخصية محمد بن الحسن الحجوي (1874-1956) حامل مشروع الإصلاح من داخل الجهاز المخزني ومؤسسات الحماية الفرنسية. وعلى هذا يتجه كتاب «الفكر الإصلاحي في عهد الحماية (محمد بن الحسن الحجوي نموذجا)» للباحثة آسية بنعدادة (إصدار 2003، 350 صفحة)، إلى تناول شخصية هذا الإصلاحي النهضوي، من خلال محطات من تاريخه العلمي والنضالي، ومن خلال تآليفه وكنانيشه المخطوطة ومحاضراته المكتوبة. يضم هذا الكتاب ثلاثة أبواب، وأحد عشر فصلا. حيث يعطي في البداية نظرة شمولية عن الوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والعلمي، إبان حكم السلاطين: عبد العزيز، عبد الحفيظ، يوسف بن الحسن، ومحمد بن يوسف. وإن كان الكتاب يركز على شخصية محمد بن الحسن الحجوي كأحد الأصوات المثقفة الداعية إلى الإصلاح، فإنه يمنح لقارئه نبذة عن مرحلة ما قبل الاحتلال الفرنسي والإسباني وما بعد معاهدة الحماية، والسياق التاريخي الذي أدى إلى سقوط المغرب في يد الاحتلال بما تنطوي عليه هذه المراحل من أحداث وقضايا أثرت في الحجوي، سواء التي عاشها أو التي لم يعش إلا جزءا منها، حيث كان فيها صغير السن ، لكن أصداءها علقت بالذاكرة الوطنية، وأثرت في الذهنية المغربية، فكتب عنها العلماء وتعرف عليها الحجوي عن طريق شيوخه.. وهذه المرحلة هي مرحلة تمتد من معركة إسلي إلى غاية وصاية أحمد بن موسى (باحماد) على حكم السلطان عبد العزيز، بما كانت في هذه المرحلة من ضغوط عسكرية واقتصادية على المغرب، من طرف قوى الأطماع الاحتلالية. أما المرحلة الثانية فقد عاصرها وكان فاعلا سياسيا فيها بحكم الوظائف المختلفة التي مارسها، وهي مرحلة من 1894 إلى 1912، وهي التي أدت ظروفها إلى فرض الحماية بسبب الأزمة الداخلية وما تخللها من تحولات على المستوى السياسي والاقتصادي، حيث عرفت انتقال السلطة من السلطان عبد العزيز بن الحسن الأول إلى السلطان عبد الحفيظ بن الحسن، ثم كثرة الثورات وكان أخطرها ثورة «بوحمارة»، ووقتها كان الحجوي نائبا عن السلطان عبد العزيز في الحدود المغربية الجزائرية. وكلفت تلك الثورات الجيش المخزني أموالا باهظة اضطرته إلى الاقتراض من أوروبا فجعلته في قبضتها، ولاسيما قبضة فرنسا بعد أن حاولت الانفراد بالنفوذ في المغرب.. وهذا الضيق المالي صاحبه تضييق الخناق إذ رفضت الدول الأوربية الاعتراف بالسلطان عبد الحفيظ رسميا، ما أدى به إلى قبول شروطها، وهذا ما اعتبرته الأوساط الشعبية والعلماء خيانة ساهمت في فوضى وثورات أخرى وزيادة تدخل القوى الأجنبية في المغرب، ما دفع السلطان لقبول معاهدة الحماية لإقامة نظام جديد في المغرب، يتضمن إصلاحات إدارية وعسكرية ومالية وتعليمية وقضائية، فتمكنت فرنسا بموجب المعاهدة من فرض سلطاتها، ثم سلب السلطان كل صلاحيات التصرف، أو سلطة تتعلق بالسيادة في بلاده، وانتقلت جل السلطات إلى المقيم العام الفرنسي.
ويعرّف كتاب «الفكر الإصلاحي في عهد الحماية» بطبيعة ونوع الفكر السائد وقتئذ، باعتبار الفترة المذكورة كانت مرحلة وعي النخبة الثقافية بالتخلف والضعف، فكانت كل الدعوات الإصلاحية هي صياغة عملية لسؤال المشرق والمغرب لماذا تأخرنا وتقدم غيرنا؟ وقد تتبعت الباحثة في فصول هذا الكتاب خطوات ومسار حياة أحد رجال الإصلاح في جيل فترة الحماية الفرنسية (النسب والولادة والتكوين..) من أجل فهم جيل المخزن في بداية القرن العشرين، ذلك الجيل الذي انغمس في أحداث ووقائع مغرب الحماية، بين المرحب والرافض، والمقاوم للتدخل الأجنبي في المغرب.
ويعد محمد الحجوي عالما وفقيها وسياسيا وموظفا مخزنيا وتاجرا أيضا، درس في القرويين، وكان منفتحا على الثقافات الأجنبية القديمة منها والحديثة. تقلب في وظائف متعددة قبل الحماية وأثناءها، ما مكنه من تلمس مكامن الضعف ومواطن القوة في الجهاز المخزني، وفي مؤسسات الحماية. وقد كان يحركه هاجس النهوض للخروج بالمغرب من سباته وتخلفه وجموده إلى التقدم والرقي، فكان يعلق آمله في الإصلاح على المخزن العزيزي، خاصة لما بدت له بعض ملامح التغيير في عهد السلطان عبد العزيز، غير أن الظروف الداخلية والخارجية لم تسمح بمباشرة أي إصلاح فعلي، وقد بيّنها الحجوي في كتاباته المتنوعة. ثم بعد ذلك تبددت آماله مع المخزن الحفيظي، فاعتبره امتداد التقليد والجمود، ولا شيء تغير إلا اسم السلطان، ولهذا الأمر عاب على المخزن سياسته وفساد أطره، وانعدام تكوينها وعلى الرعية جهلها، لأنه كان يرى هذه وغيرها من الأسباب التي أدت بالمغرب إلى الاحتلال.. لكنه سرعان ما غير خطابه بعد توقيع معاهدة الحماية، حيث ناشد المغاربة باتخاذ الحماية أداة لتحديث المغرب، بعدما أصبحت أمرا واقعا لا مفر منه، وعرّف الحماية بالحداثة وبالعجلة التي تساعد على تحقيق الرقي، شريطة أن يحسن المغاربة استعمالها بصفتها عنصرا حيويا وأساسيا لتجاوز التقليد، بدون طمس الشخصية المغربية ومحو جميع مكوناتها، فقد كان حريصا على إحياء الفكر الاجتهادي الخلاق المبدع، الذي تميزت به الشخصية الإسلامية في عهودها الذهبية.
 
ومما يؤخذ على هذا العالم، هو بيعته لابن عرفة، وهي من بين أسباب تهميشه والاساءة إليه في آخر حياته، رغم أنه لم يكن الوحيد ضمن من بايعوا ابن عرفة. لهذا تقول الباحثة في الختام: ويظهر أن مفهوم الخيانة يطرح عدة تساؤلات، ويتطلب التحديد في القصد والمزيد من التنقيب والتريث.
 
وما الحماية في نظره إلا مساعد على تحقيق الإصلاح، باعتبار بنود الحماية مجرد مرحلة انتقالية مؤقتة، هدفها دعم المخزن ومساعدته على إدخال الإصلاحات، خاصة في بدايتها مع المقيم العام الجنرال ليوطي (1912 إلى 1925) الذي عُرف بحنكته السياسية ودهائه واطلاعه على طبيعة المغرب والمغاربة، لكن آمال محمد الحجوي خابت من جديد بعدما تأكد له أن فرنسا لم تكن ترغب في إدخال إصلاحات حقيقية وإنما نهجت سياسة التهدئة خدمة لمصالحها الخاصة… فنهج في الثلاثينيات خطابا انتقاديا يلتمس منها إدخال إصلاحات فورية، بدون تمويه وهو ما التقى فيه مع مطالب زعماء الحركة الوطنية.
وقد اعتبر الحجوي التعليم شرطا أساسيا للنهوض، به يمكن تحقيق أي إصلاح آخر سياسيا كان أم اقتصاديا أم اجتماعيا.. فطالب بإصلاح التعليم وتعميمه، والأخذ بالعلوم العصرية، بدون التخلي عن العلوم الدينية والأدبية، والعمل على الخروج بها من التقليد والجمود.. فركز على الدعوة إلى الانفتاح والاجتهاد، مع الحفاظ على الثوابت الإسلامية والهوية المغربية.. وطالب بإصلاح جامعة القرويين (التي تعد من أقدم الجامعات الإسلامية) وعمل على ذلك حين كان وزيرا للمعارف، لكنه فشل بسبب المعارضين المحافظين.. ويعد الحجوي من الأوائل الذين رأوا أن الرقي لن يحصل بدون تعليم المرأة تعليما ابتدائيا لكونها أساس النظام الأسري والاجتماعي. كما ضم في مشروعه الإصلاح الاقتصادي (فلاحة وصناعة وتجارة). وقد حاول تطبيق مشروعه الذي اقترحه عندما كان يمارس مسؤولياته السياسية، لكنه فشل بسبب ما واجهه من القاعدة الاجتماعية غير المؤهلة لفهم واستيعاب الاقتراحات التي قدمها. ووجد معارضة من الفقهاء المحافظين.. ولم تتم معارضة مشروعه فقط، بل إنه بعد 1947 عاش تهميشا من المخزن، ومن الإقامة العامة أيضا إلى حد سكوته، فاكتنف الغموض حياته في تلك الفترة، خاصة أنه توقف عن الكتابة.. وترجع الباحثة هذا الأمر إلى تغير الأوضاع داخل المغرب وخارجه ونضج الحركة الوطنية، بحيث أنتجت خطابات تجاوزت المواقف التوفيقية، التي كان يطالب بها الحجوي، كما أن الحركة الوطنية لم تعد تقتنع بالإصلاحات، بل تطالب بالاستقلال. وقد كان الحجوي من الأطر المخزنية التي تعاملت مع الحماية، لهذا طالبوا بعزله، (تقول المؤلفة( وعملوا على تهميشه، لكن أفكاره ظلت حاضرة في خطاب زعماء الحركة الوطنية.
ومما يؤخذ على هذا العالم، هو بيعته لابن عرفة، وهي من بين أسباب تهميشه والاساءة إليه في آخر حياته، رغم أنه لم يكن الوحيد ضمن من بايعوا ابن عرفة. لهذا تقول الباحثة في الختام: ويظهر أن مفهوم الخيانة يطرح عدة تساؤلات، ويتطلب التحديد في القصد والمزيد من التنقيب والتريث.
وللحجوي مؤلفات كثيرة في التاريخ والسياسة وفي الدفاع عن الإسلام ككتابه «الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي» الذي وصل إلى مصر والشام والعراق والهند.. وصار مرجعا لكتب أخرى ألفت بعده.. كما له مؤلفات للحث على مواكبة العصر والأخذ بالمستجدات، ومؤلفات تحمل أفكاره الإصلاحية في الاقتصاد والتعليم والقضاء.. كما كتب في الرحلة، وألف في الفقه والحديث والسيرة النبوية والتفسير والتوحيد، إضافة إلى محاضراته العديد داخل المغرب وخارجه، كما ناقش وعارض موقف كمال أتاتورك الذي يعتبر الإسلام سبب التخلف وناقش أفكار العديد من الإصلاحيين، والمفكرين كمحمد عبده وقاسم أمين وغيرهم.. ما يبين أن الرجل كان فقيها عالما مطلعا على كل مجالات الفكر والعلم والدين، ومجالات السياسة والفلاحة والتجارة، ومارسها عمليا وكتب فيها.
إن اختيار شخصية إصلاحية كنموذج للدراسة، قصد البحث من خلالها في هموم ومشاغل مغرب نهاية القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، تقود إلى طرح مجموعة من التساؤلات: هل صوت التغيير الذي نادى به الحجوي كان مسموعا عند كل المغاربة، أو عند بعضهم، أو أنه كان محاصرا ومنبوذا شأن الحجوي نفسه؟ وكيف نفهم المواجهة التي تصادفها كل محاولات التغيير نظريا، في حين أن حياة المغاربة اليومية كانت تعرف تحولات عميقة من جراء الاحتكاك بالأجنبي؟ وإجابة عن هذه الأسئلة تقول الباحثة: «تتطلب منا وتقتضي دراسة عميقة لنماذج أخرى من علماء مغرب المرحلة المدروسة، سواء تعلق الأمر من تبنوا موقف الحجوي نفسه، أو أولئك الذين رفضوا التغيير والتجديد، وطالبوا بالابتعاد عن الحماية… فلا شك في أن منوغرافيات من الأسماء ستساعد على استقصاء جيل بكامله وتمكن من أخذ نظرة متكاملة واستخلاص التوجهات التي كانت مسيطرة.
 
كاتب مغربي