Friday 26th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    29-Nov-2015

وداعاً للثقافة «الأخرى»

القدس العربي-تسللت للوعي العربي، مصطلحات معبرة عن فخامتها وهيبتها في تحليل واقع المجتمع العربي في فترة النضال ضد الاستعمار الخارجي، تبنتها حركات وأحزاب وأنظمة كانت توصف ارتباط بعض النظام العربي «الرجعي» بمصالح الإمبريالية، وصنفت أدبيات النضال الثوري مصطلحاتها بتلك الاصطفافات والتحالفات في وعي الجماهير التي قادتها أحزاب وقوى تبنت هذه الشعارات كمادة فلسفية للتحليل الطبقي من بعض «النخب» المثقفة، على اعتبار أن تلك الأحزاب قدمت نفسها طليعة جماهيرية، غير أن ما شهدته تلك الحركات في العقدين الأخيرين وصولاً لمرحلة الثورات العربية، أسقط ادعاءاتها وأفكارها وبرامجها النضالية مع ورقة شعاراتها المتطايرة بفعل رياح التغيير التي عصفت منذ أكثر من عقدين بالمنظومة الاشتراكية في شرق أوروبا، وبعض الدول التي تبنت طروحات مشابهة من الأنظمة الشمولية الممسكة بذيل الأيديولوجيا.
وهنا ليس ثمة شك بأننا أمام لوحة سريالية من الثقافة يتبجح أصحابها بالتزامهم بها، بينما تستمر عملية التدليس الثقافي المتناقض مع حقيقة ما يدور على أرض الواقع… فالنموذج الذي قدمته بعض النخب للعالم العربي متمثلا في المشهد المصري والسوري واللبناني والعراقي، بعد أن خبا بريق الأيديولوجيا والأخلاق، فشلت في تقديم ما أرادت تقديمه، فلم يتبق إلا عملية عقيمة من تفكيك الثقافة وإعادة تركيبها لتكون قائمة على دعم الاستبداد، حتى أصبحنا امام اختيار صعب، يبدو للوهلة الأولى أنه يشكل تناقضا بين ما طرحته تلك الثقافة من إستراتيجية، وما هو مطروح في ساحة الواقع، الأمر الذي يشيع حيرة عند أوساط كثيرة من الشارع العربي الذي آمن بتلك النظريات.
اللافت في المشهد الثقافي الأيديولوجي، أن من اعتبر نفسه وريثا للحقبة الاشتراكية ووفياً لها، بدءا من روسيا الاتحادية وصولاً إلى أحزاب في حركة التحرر العربي والفلسطيني، ظل يعوم عند شاطئ الثقافة المتلاطمة، وفي الممارسة لا الشعار انتهج مبادئ روح الإمبريالية والرجعية المنحدرة، سلوك اتبعته بلدان ادعت طيلة عقود أنها نقيضة للرجعية، التي كشفت من ينتمي لها ممارسة لا شعارا أيضاً، وهو ما نشهده في سلوك الإمبريالية الروسية في المشهد السوري، وفي عدة مناطق من العالم بعد تراجع مهمة أمريكا الإمبريالية لصالح التحالف الكامل معها، أي لا فروق بين سلوك أمريكا وروسيا في الحالة الإمبريالية الفاضحة للفروق المزيفة بالشعارات بينهما، وعليه أخذت النخب الثقافية المكتسبة لتحليلاتها الماركسية والاشتراكية مهمة أخرى لتغطية كل عجزها بالالتحاف تحت عباءة الاستبداد والطغيان.
الانتكاسة الأخرى التي أصابت في مقتل أحزاب وحركات التحرر العربي والفلسطيني لا تبتعد كثيرا عن الحالة التي عصفت بقدوتيهما الإمبريالية كمسلة للبغض والاشتراكية كمنارة للشعارات التي علقت عليها صورتها النضالية الكبرى، لتتوج اليوم في ابتذال سلوك كل ما يناقض دعوتها التمسك بقيم الحرية والكرامة الإنسانية مع انطفاء دورها المفترض وهي تحتضن كل مساوئ وموبقات نقيضها «الإمبريالي والرجعي»، تتبدى مبدئيتها المناصرة لقوى الاستبداد في امتهان العقل في منحى عملي ونظري ينصر الطغيان ويخذل الإنسان، وتكتفي بأكداس الشعارات التي تقتات عليها لتضمن استمرارية عابرة في عار التاريخ الفاضح لرذائل ومفاسد قيم الإنسان الكبرى..
شرع العديد من المثقفين العرب، في الانسحاب نحو ربواتهم عند اندلاع الثورات مشدوهين ومبهوتين مترددين ومبعثرين داخل وتيرة جنونية وجدوا أنفسهم بغتة يدورون حولها، ممتعضين من إنسانهم الذي فتح فجأة أبوابه على وعيه المباغت بدوامة سريعة من الأحداث بعثرت كل الثقافة التي كانت ملقاة أمام عقله، وأصابته بحالة إغماء ودهشة مشحونة بالتساؤلات التي شملت أحلام المواطن وأمانيه التي ناضل من أجلها قبل وبعد.
عكس المجال الثقافي في مرحلة الثورات العربية، مستوى الهبوط لجدران القيم والأخلاق وبدت كأنها تصب في قالب واحد لإرضاء عجزها والاتكاء على تسوس المفاهيم المضمحلة، بعد أن كانت بديهياتها مهتمة ومعنية بقضية الإنسان والأوطان، أصبحت مساندة ومحتفية بالاستبداد والطغيان، واختفت معها الحجج الأخلاقية والإنسانية الكاذبة التي كانت تعلن بشكل متواتر في أدبيات الادعاء الثوري والأدبي، ومن دون تمهل أو حسبان اختلط ذاك المجال في معاييره إلى حدود التيه، إلى أن أصبح الكيان الثقافي الحالي هلاميا وباذخ البربرية، فيما الإنسان العربي يقرأ أساهُ في تتابع لا ينقصه الوضوح كيف يدمر «المثقف» مضمونه وبلاغته وأيديولوجيته التي جلدت المجتمعات العربية، وحملت بعضها قوى المعارضة وحركات التحرر وأنظمة لبست ثوب الديماغوجيا، بحيث بات الصيت للإمبريالية الأمريكية و»الرجعية العربية» كمشاجب تعلق عليها كل موبقات وأحزان المجتمعات العربية، بدءا من المنظومة الاقتصادية والسياسية والمجتمعية وانتهاء بالمؤامرات التي تطال حرية تلك المجتمعات..
عملية الفسخ الهجين للثقافة، مع واقع الربيع العربي ممن كانوا دعاة للتغيير في الماضي انقلبت اليوم إلى «ثقافة تضخيم مرعب» من الإنسان العربي، هذه اللغة التي تصنف ثقافة الربيع العربي في تناوب مستمر لاجترار لغة الماضي وشعاراتها المبنية على الطقوس ذاتها لن تستعيد ذاتها في شعبوية الشعارات المتجهة للماضي.
يتأكد ركود الثقافة التي تدور في شعارات الماضي من دون إضافة نوعية تواكب سياقها الطبيعي الذي دونته وأرخته في مجلدات ضخمة عن الاستبداد والديمقراطية والحرية، وحق المرأة ومناهضة الاحتلال ومقاومة الظلم والطغيان، لذلك يقترب هذا الركود من حالة الاستنقاع التي بدا عليها بعض المثقفين بمزج الإخفاق مع الشعارات التي تدعو للوقوف إلى جانب الطغيان لمحاربة «الإرهاب» الذي توالد أساساً في السياسة والاقتصاد والثقافة والأيديولوجيا التي اقتات عليها الاستبداد.
الفعل والأداة التي مررت هذه الأيديولوجيا الزائفة حملتها قوى وحركات سلمت زمام أمرها، ليس للجماهير التي تدعي تمثيلها، إنما للقوى التي سيطرت على مجتمعاتها وحولتها مع نخبها ورموزها إلى إمعات وظيفية شكلانية تسبح في فراغ التاريخ، ونحن نشاهد جامعات ومراكز بحث علمي وبنية تحتية تنهض بمجتمعات طُبعت في ذهن المواطن العربي على أنها بنى «رجعية « حالة الرقي «الوطنية» لا يمكن أن تنغمس بها، وترى كل هذا الهدم والدمار والتخلف والاستبداد والقمع والظلم على أنه نتاج بنى وطنية وتقدمية، تعجز بشكل فاضح ومخزٍ في الدفاع عن جماهيرها المقموعة، بل تقدم « سيادتها الوطنية» للإمبريالية الجديدة، وبقيت كل بياناتها تتبرأ من مواطنها باستمتاع للصوت الإمبريالي المنبعث من خلف الركام الرجعي منهالاً من بيانات وأدبيات تحولت إلى سكين تفصل الأوطان وتطرد الإنسان وتُبقي رغاء الكلام.
 
كاتب فلسطيني
 
نزار السهلي