Friday 26th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    22-Dec-2017

نقد العالَم: في ذمّ الطهارة العقلية - معاذ بني عامر
 
 
الغد- أول نقد للعالَم من قبل الإنسان هو بمثابة استنهاض لـ (نعم) الإيجابية على (لا) السلبية. الانتقال من (لا) السكون والصمت والخَرَس، إلى (نعم) الحركة والفاعلية والتحقّق الأصلي للذات في هذا العالم. استنهاض (القوة الفاعلة) لدى هذا الإنسان، على حساب القوة التي (تفعل به) أو (ينفعل بها)، بما يُثْبِت قدرته على إدخال تعديلات على نظام العالم، من شأنها مساعدته في مسيرته الحضارية.
وعليه، فالنقد (نقد النص الوجودي متضمناً جميع أنواع النصوص أياً كانت مواضعاتها) انتهاك للعلاقة التي تربط الإنسان بسياقاته المختلفة والمتعدّدة، فالبراءة والحالـة البكوريـة لا معنى لها هُنا والآن، بل الدَنَس هو سيد الموقف. فتلويث العقل الإنساني مأثرة كبرى هَهُنا، فبدون انتهاك الصيغة البِكر للعقل، بصفته سياقاً خاملاً يحتاج إلى المِران الدائم، سيبقى المرء هامداً على المستوى الحضاري، فهو يقبل بما هو عليه، دون أن يكون له دور يُذكر في السجالات الدائرة بين شرطه العقلي ومادة العالَم، فحالة الاستسلام التي وصمته بالبراءة والطهارة جعلته يركن إلى ما هو موجود على أيدي غيره، بما يُعطّل وجوده بالتالي. 
وللتأسيس للنقد تأسيساً ماكناً ومتيناً، فلا بُدّ له من عملية قرائية أولاً. وأمكنني هنا التأشير على نوعين من القراءة، كمقدمةٍ ضرورية للعملية النقدية، وانتقال الإنسان من مرحلة المفعول به وجودياً إلى مرحلة الفاعل الحضاري: 
1 -    القراءة الفردية، إذ تضطلع بها ذات واحدة، وتمارس حقّها في استبصار معالَم النص الوجودي، وهي إذ تفعل ذلك –مستخدمة حواسها وعقلها- فإنها تؤكد حضورها التأسيسي في هذا العالَم، فهي مُشاركة حقيقية في استجلاء معالم هذا الوجود، بما يمنحها فرادةً لا تتأتّى لغيرها، ولا يمكن –في الوقت نفسه- أن تنوب عن غيرها. فهي –والحالة هذه- مُتحقّقة كذاتٍ فردية على المستوى الوجودي. فالذات إذ تقرأ هذا العالَم، فإنها تكون قد شقَّت صدفة سلبيتها الأنطولوجية، وشقشقت لتعاين العالَم كما هو كمرحلةٍ أولى عبر التلّقي الحواسي، وإجراء تعديلات عقلية على البنى القائمة كمرحلةٍ ثانية، فالصيغة التي يتموضع بها العالَم تتصادم مع مرحلة ما بعد التلّقي القرائي. ولربما كانت مرحلة القراءة الفردية هي أول صيغة احتجاجية على ما هو قائم، لغاية نقله إلى ما يجب أن يكون.
2-    القراءة الجمعية، إذ تضطلع الذات الجمعية، في قراءة معالم هذا العالم، والدخول في حراك تفاعلي معه، وعدم الرضا بما هو قائم. فالنجمة القائمة في أعالي السماء، هي مثار قراءة أساساً، بطريقة التأمّل والسؤال، بحيث لا يُنْتهَى من فعل القراءة إلا وتكون معالم هذه النجمة قد تبدّلت في الذهن الجمعي، وانتقلت من طور أقل حضوراً لهذه الذات الجمعية، إلى طور أكثر حضورا لها. وكلّما استطاعت أمة من الأمم تعزيز فكرة قراءة العالَم على المستوى الفردي، كانت قراءاتها الجمعية أكثر جدوى، وأكثر تحريراً لهذه الذات. فالوعي المُتحصّل بفعل قراءات كثيرة وواعية، غير تلك القراءات الجاهزة والناجزة.
من هنا تتولّد الرغبة بنقد العالَم، وإجراء تعديلات على وضعيته القائمة. وإذا كانت قراءة العالَم بمثابة الهيكل العظمي، فإن النقد بمثابة اللحم الذي يكسو هذا الهيكل، ويمنحه القدرة للوقوف على رجليه والدبّ على الأرض. فالبنية التحتية إذ تتوفّر يصبح شرط البناء أكثر يسراً وسهولة. لذا من الضروري التأسيس للفعل النقدي بفعل قرائي. فنقد نظام الكواكب والمجرات، وإجراء تعديلات عليه، بما يخدم مسيرة الحضارة الإنسانية، لا يتأتّى إلا عقب قراءة لهذا المتن. ونقد النص الديني أو الفلسفي أو الأدبي، لغاية مُواكبة الشرط المعرفي للإنسان، لا يتأتَّى هو الآخر إلا عقب عملية قرائية. وكلما كانت العملية القرائية أعمق وأشمل، كان ثمر العملية النقدية أنضج وألذ.
وكما أن القراءة على مستويين، كذا النقد –لكي تكتمل المعادلة وتُؤتي أُكلها- هو الآخر على مستويين:
1-    النقد الفردي، وفي هذا المستوى يبرز السؤال الأنطولوجي: لماذا أنا موجود؟ إلى الواجهة الأمامية، ويفرض نفسه على السياق المُتداول، بصفته سؤالاً تأسيسياً في علاقة الذات الفردية بالوجود كاملاً، والدور المُناط بها تحديداً من دون غيرها من بني البشر. والتمهيد لهذا السؤال بعملية قرائية للنص الوجودي – أياً كانت مواضعاته- سيجعل من النقد الفردي لهذا النص، بمثابة انتقال من طور المفعول به أو حتى طور المُنفعل به، إلى طور الفاعل في هذا العالَم. فالذات إذ تنقد فإنها تنفصل عن مشيمة هذا العالَم، وتصبح أدواتها العقلية بمثابة المقص الذي يقص هذه اللُحمة التي تجمعهما سوية، لغاية الابتعاد عن المشهدية، ومعاينتها معاينةً فاحصة، وإجراء تعديلات عليها من ثمَّ، بما يخدم المشروع الحضاري الإنساني، ويدفع به قدماً ناحية الأمام.
2 -    النقد الجمعي. وإذا كان للذوات الفردية أن تتشارك الهمّ الأنطولوجي عبر مكابدات معرفية وتأمّلية، فمن شأن السؤال السابق: لماذا أنا موجود؟ أن يُمايِز بين الذوات إلى حدّ إبداع مُنمنمة الحضارة الإنسانية، بصفتها نُتفاً صغيرة لذواتٍ لا حصر لها. فالذات الفردية إذ تقرأ نصاً بعينه، وتنقده نقداً عقلياً وفقاً لمقتضيات تلك القراءة، فإنها تفسح المجال أمام الذوات الأخرى لقراءة بقية النصوص وإجراء اللازم نقدياً عليها. بما يفكّ –من جهة- احتكار المعرفة على ذواتٍ بعينها من جهة، وما يعني –من جهة ثانية- قدرةً على تخليقِ مجال حيوي لذوات كثيرة أن تفعل بالوجود بدل أن تنفعل به أو يُفعل بها. فالخبرات النقدية الفردية، إذ تتراكم جنباً إلى جنب، وتأخذ بُعداً أفقياً يسعى إلى الصالح الإنساني، لا بُعداً عمودياً يسعى إلى الاستئثار، فإنها تُساهم في بلورة نسق جمعي هائل، لديه القدرة على إحداث نقلة نوعية ليس في البنى الذهنية فحسب، بل في البنى الواقعية أيضاً، بما يعني تحوّل الإنسان –على المستويين الفردي والجمعي- إلى إنسان لديه القدرة على تمثّل (كُنْ) وتحويلها من (كُنْ) خارج الشرط الزماني، إلى (كُنْ) تراكمية، انبنائية خاضعة لشرط الاجتهاد (القرائي/ النقدي) وفاعليته في الزمن والمكان.
وهكذا، تتشكّل معالم الإنسان الناقد، وتتخلّق بصمته الأنطولوجية، بصفته قادراً على اجتراح جديد في هذا العالَم، بعد أن يكون قد قرأ شفرته الأساسية ونقد منظومته، وأدخل تعديلات عليها، بطريقة تنقله من مرحلة السلب الوجودي إلى مرحلة الفعل الحضاري. فهو الآن –مرحلة ما بعد النقد- لم يعد طاهراً، ولم يعد يحتفظ بناموس براءته الأصلية التي تجعل منه كائناً مفعولاً به وجودياً أو منفعلاً بالوجود، بل هو الآن مُدنّس ولا يليق به إلا أن يفعل بالوجود، ويفعّله حضارياً، بما يليق به ككائنٍ جسور وطموح وأساسي في هذا العالَم.