الدستور-مصطفى القرنة
رواية «فاطمة: البارود والسنابل» هي عمل أدبي مميز للروائي الأردني الدكتور محمد عبد الكريم الزيود، الذي استطاع من خلالها أن يقدم صورة شاملة عن تاريخ الأردن الاجتماعي والسياسي خلال فترة هامة من تاريخه المعاصر. تركز الرواية على مدينة الزرقاء الأردنية، حيث تنسج خيوط سردية معقدة تتشابك فيها محطات تاريخية هامة بدءًا من الأربعينيات، وتتناول تفاصيل الحياة اليومية في الزرقاء، مع الإشارة إلى أهمية الزراعة والهوية الأردنية.
لكن ما يميز هذه الرواية بشكل خاص هو العنوان ذاته: «فاطمة: البارود والسنابل»، الذي يحمل في طياته الكثير من الدلالات الرمزية التي تستحق التوقف عندها، فهو ليس مجرد تعبير عن الأحداث أو الشخصيات، بل هو مفتاح لفهم سياق الرواية وتعميق قراءة تاريخ الوطن وذكرياته الجماعية. فالبارود يمثل التاريخ السياسي المشحون بالحروب والصراعات، بينما السنابل تذكرنا بالأمل والنماء في أرض الزرقاء، التي تزدهر بفضل صبر أهلها وزراعتهم.
البارود، في رواية الدكتور محمد عبد الكريم الزيود، لا يعد مجرد أداة حربية، بل هو رمز حي وفعلي للصراع الذي مر به الشعب الأردني على مر العصور. هو أداة للمقاومة، ولكنه يحمل أيضًا دلالات أعمق تتعلق بالألم والتضحية التي لا تنفصل عن تاريخ الأردن. منذ منتصف القرن العشرين، كان الأردن في قلب الأحداث التاريخية الكبرى، بدءًا من نكبة فلسطين، مرورا بالصراعات مع الدول المجاورة، وصولاً إلى المعارك التي خاضها الجيش الأردني في فلسطين.
لكن البارود في الرواية لا يعبر عن الحروب فقط، بل يشير أيضًا إلى شخصية «صالح»، أحد أبطال الرواية الذي شارك في الحروب الفلسطينية مع القائد الأردني حابس المجالي. كان صالح أحد الجنود الأردنيين الذين شاركوا في الدفاع عن الأرض الفلسطينية في عام 1948، وهي سنة تمثل مفترقًا تاريخيًا حاسمًا في تاريخ المنطقة. كانت تلك الحروب شاهدة على تضحيات كبيرة، حيث هب الجنود الأردنيون للدفاع عن أرض فلسطين في مواجهة العدوان الصهيوني، ومرت القوات الأردنية بعدة معارك شرسة، بما في ذلك معركة القدس. في هذا السياق، يمثل البارود رمزًا للتضحية والمقاومة، وأداة تؤرخ لمرحلة من النضال.
تجسد هذه الرمزية في الرواية حالة الانشطار التي يعيشها بطل الرواية «صالح» بين واجب الدفاع عن الأرض الفلسطينية وذكرياته العاطفية مع فاطمة، الفتاة التي كانت جزءًا من ماضيه في الزرقاء. هذا التداخل بين الحرب والحب، بين الموت والحياة، يضفي على الرواية بعدًا إنسانيًا عميقًا يلامس قلوب القراء.
السنابل في العنوان تحمل في طياتها أبعادًا رمزية جمالية، تشير إلى الأرض والحياة والبذور التي تثمر عن جهد طويل. في رواية «فاطمة: البارود والسنابل»، ترمز السنابل إلى الحياة الزراعية في الزرقاء، تلك المدينة التي كانت في بداياتها تشتهر بإقامة المعسكرات فيها.
تصف الرواية كيف كانت الزرقاء، على الرغم من طبيعتها الصحراوية في بعض أجزائها، تخرج السنابل من تربتها بكثرة، كما كانت الزراعة مصدرًا أساسيًا للعيش في تلك الفترة. الأراضي الزراعية، التي لم تكن إلا امتدادًا للهوية الأردنية الريفية في ظل الحروب المتواصلة، تصبح رمزًا للصبر والمثابرة. الزرع الذي يطلع من الأرض، رغم قسوة الظروف التي تحيط به، هو تعبير عن الأمل والتجدد المستمرين.
كما أن الزراعة في الزرقاء تمثل الرابط بين الماضي والحاضر، فالأجيال التي نشأت في الزرقاء كانت تحاول دائمًا الحفاظ على هذا التقليد الزراعي كجزء من هوية المدينة. مشاهد الحقول التي كانت تمتلئ بالسنابل، تشي بحياة تتسم بالقوة والإصرار على النمو في أرض صعبة، وهكذا تصبح السنابل مرادفًا للصمود والتمسك بالحياة مهما كانت التحديات.
تعتبر الزرقاء واحدة من أهم مدن الأردن التي حملت الكثير من التحولات التاريخية والاجتماعية. في الرواية، تأخذ الزرقاء بعدًا خاصًا حيث تمثل نموذجًا للتغيرات التي مرت بها معظم المدن الأردنية في فترة الخمسينيات والستينيات. كانت الزرقاء قد بدأت في التحول إلى مدينة صناعية، مما غير من طبيعتها الريفية تدريجيًا. ورغم هذا التحول، ظل الكثير من سكانها يرتبطون بالزراعة ويعملون بها، مما يضفي على المدينة طابعًا فريدًا ومختلفًا عن باقي المدن الأردنية.
من خلال وصف الحياة في الزرقاء، يقدم الدكتور محمد عبد الكريم الزيود صورة حية عن تلك المدينة التي لا تعرف الاستسلام، حيث كانت أراضيها تزخر بالمحاصيل الزراعية التي كانت تزرع من قبل أهلها بيدٍ آمنة، بينما كانت مدينة الصناعة التي تنمو بسرعة تبتلع جزءًا كبيرًا من الملامح الريفية الأصلية. هذا التغيير يعكس التوترات التي كانت تعيشها الزرقاء بين رغبتها في الحفاظ على ماضيها الزراعي وبين الحتمية التي تفرضها الثورة الصناعية.
الأمل هو أحد المحاور المركزية في رواية «فاطمة: البارود والسنابل». الشخصية الرئيسية، فاطمة، تمثل في هذه الرواية الأمل والمستقبل الذي يقاوم القسوة الناتجة عن الحرب والصراعات. فاطمة ليست مجرد امرأة عابرة في الرواية، بل هي رمز للحياة الجديدة، التي تتجسد في السنابل والبارود.
والاختيار بين البارود والسنابل يمثل معركة داخلية بالنسبة لصالح، فهو، من جهة، يواجه واجب المقاومة، ومن جهة أخرى، يتوق إلى الاستقرار والأمل الذي تمثله فاطمة وزراعتها. الحب العفوي والبريء الذي يربط صالح بفاطمة لا يقتصر على الحب الشخصي بل يمتد ليشمل حب الأرض، والدفاع عنها، وبناء حياة جديدة على أرضها.
إن دلالات العنوان في رواية «فاطمة: البارود والسنابل» لا تنفصل عن السياق الوطني والتاريخي الذي تتحدث عنه الرواية. العنوان هو دعوة للقارئ لفهم تاريخ الأردن ليس فقط من خلال المعارك العسكرية، بل أيضًا من خلال الحياة اليومية للأشخاص الذين كانوا يحاربون من أجل البقاء والنماء. فالبارود يمثل تاريخًا مليئًا بالتضحيات والمقاومة، بينما السنابل تمثل الأمل والقدرة على التجدد في أرض كانت شاهدة على صراعات وحروب، لكن لا يزال ينبض فيها قلب الحياة.
الدكتور محمد عبد الكريم الزيود في روايته «فاطمة: البارود والسنابل» يعيد صياغة هذه الرموز ليجعل منها خيوطًا تمتد عبر الزمن، لتكون شاهدة على الماضي والحاضر والمستقبل.