Friday 26th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    12-May-2020

«الأرض المشتعلة» لسحر ملص.. عتبات الامتلاك والفقد

 الدستور-د. نضال الشمالي

 
ماتنفك الأنواع السرديّة تتمرد على ذاتها وتتشكل على أنقاضها ضمن دورة مستمرة. وهذا يتوافق مع تساؤل تودورو فعندما قال: «من أين تأتي الأجناس؟» فيجيب بكل بساطة: من أجناس أدبية أخرى، فالجنس الجديد تحوّل معقّد لجنس أو عدة أجناس أدبية سابقة عليه.
 
ولعل القصة الومضة (القصة القصيرة جداً) Flash Story التي ما تزال في مرحلة اكتساب المشروعيّة مثال يؤكد حالة التوالد والنمو، وهي حركة مشروعة ضمن نظرية الأنواع الأدبية، وإن ارتهنت لذائقة المبدع والمتلقي على حدٍ سواء. وعلى الرغم من اختلاف الباحثين في تأطيره وتوصيفه إلا أنّ ذلك لا يقلل من مشروعيته.
 
تنتسب القصة الومضة إلى نمط التخييل المصغر أو المجهريّ Micro Fictionالذي يولي المساحة الجغرافية أهميّة في إيجاد كينونتها ضمن نطاق مكثف من العتبات النصيّة المتعاقبة، فهي صيغة سرديّة موجزة تقوم على التعقيد والتكثيف والإيماض، تتخذ من الحذف والإضمار والإيحاء وسيلة لبلوغ غايتها.إنها المهارة أن تقدم التخييل الواسع ضمن المساحة الضيقة.
 
تفرد سحر ملص إصداراً كاملاً يختص بالقصة الومضة تحت وسم «الأرض المشتعلة: قصص قصيرة جداً» عن دار اليازوري 2019، وسحر في هذه المجموعة التي ضمّت 108 ومضات تلامس حيثيات الواقع المتفجر بوصفها امرأة مثقفة تاهت اهتماماتها الرؤيوية بين مسؤولياتها النسويّة المؤدلجة. ومسؤولياتها التوعوية بوصفها مثقفة تعاني من ويلات الواقع المشتعل من حولنا، وهو واقع يفرض وقعه الرصاص والتدمير والاغتيال وسلب الحقوق (رمزية الفقد). وقد أظهرت هذه المجموعة شراسة الإنسان مقابل براءة الأطفال ووفاء النساء ووداعة الحيوان، فقاومت فعل الغدر والقتل والتدمير بالإمساك باللحظات الإنسانية المثلى (رمزية الامتلاك) التي تعزّز الأمل حيال القنوط.
 
وحتى تحقق سحر ملص هاتين الرؤيتين حرصت في خطابها القصصي في كثير من قصص هذه المجموعة إلى تمثّل مجموعة من المقومات التي تكفل اندراجها تحت مفهوم القصة الومضة:
 
أولاً:وحدة الحدث القصصي: وهذا المقوّم مسؤول عن إلزام القصة بحدث واحد ضمن موقف محدّد، مما يعزّز القصدية في التأليف ويلزم الكاتبة بميثاق سردي قائم على تسمية بالقصة الومضة أو أحد مرادفاتها، فضلا عن حضور الصراع القائم على قوتين متعارضتين، وتحضر القصة الومضة على شكل موقف درامي أو تأملي أو حواري، وتتمظهر في موقف حدثي موحّد دون حاجة لمعطيات الحكاية من بداية ووسط ونهاية.
 
ومن الأمثلة التي نضربها على هذا المقوّم ، قصة «أمل» ص56: «الرجل الذي ظل وحيداً في بيته بعدما هرّب أسرته بعيداً عن ويلات الحروب، وقبل أن يسقط قتيلاً أمسك صورة ابنه الوحيد وعلّقها على باب البيت، لعله يكبر ويرجع إلى داره، يستهدي على بيته الذي غادره رضيعاً قبل أن يدرك سرّ شرور الحياة». وحال هذه القصة حال غيرها ممن أفلحت ملص في سبكهن عندما خصّصت للقصة حادثة رئيسة واحدة قوامها تعليق الأب الذي يهجس بالشهادة صورة ابنه على باب البيت، ففعله هذه هو رد فعل على فعل مضمر سابق عليه تراهن الكاتبة على وعي الكاتب في استدراكه، بمعنى أن حبكة هذه القصة ينبني على فعلين فقط؛ ظاهر ومضمر ضمن تقنية زمنية إيقاعية هي «الخلاصة»، فتشكلت من 42 كلمة فقط، وتخلصت من معظم التفاصيل التي تخرج عن مغزى القصة، باستثناء الجملة الأخيرة «يستهدي على بيته الذي غادره رضيعاً قبل أن يدرك سرّ شرور الحياة» وهي جملة لا تخرج عن كونها حشواً يحصر فهم القارئ في زاوية واحدة. إلا أنّ القصديّة واضحة في كتابة الومضة، عندما تصرّ على أن تترك بقية التفاصيل ضمن إطار الفعل المحذوف، وأن تبنى القصة على فعلين متواشجين تواشجا سببياً، وقد ظهر ذلك جلياً في قصص عديدة كقصة «ميلاد» و»قوت» و»قُبل».
 
ثانياً: الإيماض: وهو المسؤول عن التسريع وتوجيه فهم القارئ وإحداث الإدهاش والمفاجأة، مما يحتّم إيقاعاً زمنياً قائماً على التسريع بخلاصاته وحذفه وإضماره وتضمينه، فتشكل مفارقة زمنية قصوى عن مستوى الحكاية، وهو مفهوم «يرتبط بالسرعة الداخلية للنص.
 
توازي لحظة الإدهاش (الإيماض) لحظة التنوير في القصة القصيرة، ويعدّ الإيماض من العناصر الأساسية في تشكيل القصة الومضة، وبدونه لا يمكن لها أن تحصل على هذا المسمّى، ولا أن تستقل عن القصة القصيرة، ومن الأمثلة الدالة على ذلك قصة «تحديد النسل» ص80: «ما إن انتهت الطبيبة النسائية التي تعمل مع جمعية تحديد النسل من حقن آخر امرأة في المدينة بحقنة تمنعها من الإنجاب. اتجهت لتعقيم النساء في قرية أخرى حتى استوقفها صوت مواء حاد يملأ الطرقات لتكتشف بأن القطط البرية قد تكاثرت في الطرقات بأعداد هائلة ... تحمل وجوهاً طفولية بريئة». تنبعث القصة من فعل بات مألوفا في دول العالم الثالث: (جهود منظمات الصحة في تنظيم النسل)، فيحدث ما يخرق أفق توقعنا (القطط تكاثرت في الطرقات... تحمل وجوهاً طفولية بريئة)، وهذا فعل إدهاش وإيماض، يؤكد فعل المفارقة في أنّ كل فعل يخالف قوانين الوجود قد يرتد بطريقة مختلفة، تتأبى على الحصر والتقييد، والقصة لا تحمل مفهوم الومضة إن خلت من الإيماض والإدهاش وخرق أفق التوقعات، وقد اضطرت ملص إلى تجسيد رؤيتها في هذا الموضوع عبر الفعلين السابقين. وقد تكررت الإيماضات في قصص عديدة بأسلوبية لافتة كقصة «مدرسة» ص120.
 
ثالثاً: التكثيف: ينظم تقنيات الاختصار والحذف والإضمار والاقتصاد القولي، وهو مسؤول عن هضم العناصر المتناقضة وجعلها كلاً واحداً، وتجاوز الوصف والاستطرادات وانثيالات الوعي والانتصار للموقف الحاد وعدم التورط في المواقف المتشعبة التي تخرجها عن طبيعتها الفنيّة، وهذا يؤسّس لفكرة التكامل في بنية القصة الومضة، إذ لا يحتمل هذا النوع السردي حذف أي كلمة، كما لا يحتمل إضافة أي كلمة لا دور لها في البنية الفنية للعمل، فالعمل يقوم على طاقة الكلمة لا طاقة الجملة.
 
ومن الشواهد الدالة على نهج التكثيف بوصفه لازمة من لوازم القصة الومضة قصة «قوت» ص17:»الطيور التي قضت ليلتها ساهرة وهي تستمع لبوح العشاق وهمساتهم، لم تجد في الصباح ما تقتات عليه سوى كلماتهم التي تناثرت على الأرض، وقد أنبتت أحلاماً تشبه حبات الذرة التي تتحول إلى بوشار».تُظهر القصة السابقة شخصيتين؛ الطيور والعشاق،وهما شخصيتان يتمظهران بمحمولات بيضاء. تتخذ الطيور دور الشاهد على فعل مكرور ومزهر قوامه الحنو والعطف والترابط، وقد تكثفت القصة لتجعل الطيور في شخصية والعشاق في شخصية مقابلة، تنوب الشخصية الأولى عن الثانية في تأكيد الفعل بـ 33 كلمة فقط، وبزمنين هما الليل والصباح، الليل الذي يستر العشاق والصباح الذي يكشف عن حبات الذرة المتولدة عن رقيق الكلام، فالكلمة الطيبة تزهر حسّاً وإن كانت معنى، والطيور وإن كانت تبحث عن الطعام إلا أنها وجدت في الكلمات الرقيقة زاداً يمنحها الحياة. وهذ القصة تتدفق أحاسيس في نفس القارئ وتنقله إلى الحالة التي قصدتها الكاتبة (الامتلاك) تحيطها قصص أخرى مشتعلة تقاوم سمتها وتمثل حالة (الفقد).
 
رابعاً: التمثيل الشعري : وهو مقوّم يراعي تقنيات العدول والمفارقة والسخرية والإيحاء وانفتاح الدلالة، وقد حدّدت فرجينيا وولف موقفها من القصة بقولها إن مستقبلها لا محالة صائر إلى أن تصبح شعراً، وتقصد بذلك تجشّم القصة لخصائص الشعر وانسجامها معه. إنّ القصة الومضة «تمثل حالة من التداخل بين السردي والشعري إلى حدّ يصعب معه تجنيس بنية اللغة التي تغدو مثاراً للخلاف»، فهي تشارك الشعر تكثيفه وخياله، وتتخذ من التجريد طريقة للتخلص من التفاصيل، ومن الإيحاء أسلوباً. ومن القصص الجديرة بالذكر قصة «صبر» ص41:»المرأة التي حيّرها طلب الصبي بائع الصبر.. أن يقشر لها الصندوق الذي ابتاعته وهو يردد بصوت جميل: أخشى على أصابعك .. أن تجرحها الأشواك. الصبي الذي حيّره منظر المرأة التي ذرفت الدموع أمامه .. لم يفطن إلى حوض الأشواك الذي نبت في قلبها بعدما جرّحتها الحياة وهجرها حبيبها». والقصة تبنى على ومضتين تشعلان فتيل التأمل، إذ يمارس الشعر تمثيلاته عبر الإيحاء بكشف «حوض الأشواك»، والمفارقة بجمعها بين اللطف الذي يقود إلى البكاء.
 
إن الإمساك بهذه الهسهسات الإنسانية (الامتلاك) كان حالة قصديّة لدى سحر ملص لمقاومة اشتعال الأرض واحتدام القتل فيها، فتلجأ إلى الكتابة بوصفها فعلاً مؤثراً وقادراً على تغيير المعادلة. والقصة الومضة ضمن تمثيلاتها هذه تقدم نفسها محرّضاً ثقافياً يسهم في لفت أنظار المتلقي إلى بؤر معتمة لا بدّ من إبرازها ضمن تقاطبات الامتلاك والفقد.