Friday 26th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    08-Jan-2021

صهيل الخيول النافرة

 الدستور-راشد عيسى

« قمر عليل» لرانة نزال حزمة من النصوص الأدبية التي تستلّ من الشعر مجازه العالي ومن النثر بنيته المتحركة. وهي نصوص شبيهة جدًا بصهيل خيول نافرة من المراعي الأليفة ومن ثقتها بالهضاب، تعدو على الصخور فتقدح سنابكها شررًا من العتاب، وتنحدر إلى الوديان السحيقة لتوبّخ الماء الخائن. وهي في شهيقها الأليم وزفيرها المتحشرج إنما تعلنعن قلقها الساخن من أخلاق المكان وعن احتجاجها على سيرورة أحلامها المتعبة. يرفقها في تجوالها الصاخب الجريح قمر عليل يؤنسها نوره ولكنه لا يحميها أو يقدّم لها عونًا مباشرًا.
تلك صورة سينمائية مفتوحة لتشخيص مجمل الرؤى التي انتابت النصوص، وهي رؤى أقرب إلى أشكال جميلة من حُمّى الفؤاد وأناهيد الصمت المبحوح الذي يناهض شقاء الوعي وأنات المعرفة. النصوص أنهار ثائرة على مجاريها غاضبة من مصباتها الرتيبة تعيش متعة التيه ولذة الندم. أنهار النفس الملولة من نفسها المجروحة بخشونة الزمن بدءًا ومآلًا.
تتشكل النصوص في بنى من الوميض اللغوي النشط الذي يتدانى جليًّا من طرائق المتصوّفة في تشفير اللغة وتلغيم الدلالة سعيًا إلى بلوغ ذروة الرمز المفتوح على التأويل. فتستعين الكاتبة بهالات النور الديني:
أنفر حُبًا
وأروم حُبًا
لبيك ربي حجًّا وربًا»
إنها أنفاس إيمانية متقطعة متناثرة كالشظايا تؤنس غربة الذات وضلالاتها أمام دنيا لئيمة لا تؤهلنا إلا لامتصاص الندم بكفاءة عالية، وللتجارة ببضاعة الحزن كي نظفر بخساراتنا السارة. لذلك تستند النصوص إلى الدفق الشعوري الحرّ غير المكبل بالأطر الأجناسية لسلطان الشعر أو لسلطة النثر فتمتص الكلمات رائحتها من الذهن وتنتشر في أعصاب القلم مثل مضاد حيوي ناجح.
رانة لا تهندس نصّها بقصدية شكلية سائدة، وإنما تلعب بمياه اللغة لتثير الأسماك الخجولة في القيعان، وتتلذذ بالآخات النبيلة المحتشدة في كينونتها.
فالنصوص تتمرأى بقصائد النثر، وتتوسل أيضاً إلى القوافي الجزئية داخل النص لترفع منسوب سجع الحمام، وترداد الصدى على غرار هذا النص:
« تقلبتُ على مواعظ ظِلًا
وارتأبت فيما لا يرى
مقامك الأعلى
انتبذته وصرتُ شجوًا وخِلا»
تختزن نصوص قمر عليل حمولة جيدة من أنوار الثقافة الإنسانية، كما تستجلب مقابسات من التناص القرآني والشعري والفكري عبر هذه اللغة المدلّلة كطفلة وحيدة لأسرتها.
غير أن رانة تسافر في أعماق الشجن الإنساني عندما تراسل أمها بأشواقها المسنّنة وحنينها المضمّد بالأسف الذي سبّبه البعد والترحال، ذلك لأن رانة كائنة أشبه بالسنونو رحّالة دائمة في فضاءات الأمكنة البعيدة عن أسرتها تحاول الحياة بتصبّر موجع رحيب.
وعندما تناولتْ مسألة العمر ولا سيّما الخمسون خدشت وجْنة الزمن وأحرجتها بعتابها الكبريائي، لأن العمر نفسه اعتذر لنفسه لتدخله في مسيرة الكبر وآلامها في سن الرشد، سن المتاعب واللهاث خلف شمس مصرّة على الغروب غير آبهة بحنين الطفولة.
هذه النصوص أيضًا أشبه بما يتساقط من فم النحلة وقوائمها من رحيق جمعته من زهرة بريّة حزينة تريد أن توفر للشتاء القادم قوتها المحتمل.
وبعد، فلم تك السطور السابقة مقدّمة فنية بقدر ما هي عين سائح على حديقة جبلية تحوم عليها طيور لم تثق بالربيع ولا بنوايا تجار الأزهار حديقة يتفاوح منها أريج القلق العذب. حديقة مهدّدة بشتاء ثقيل قد يعيد إخصابها وقد يحيلها إلى خريف أليم. على أنها في الحالين تحاول الحياة بسعادة عبر طنين النحل اللغوي الذي يباكرها ويماسيها باحترام شديد.