Thursday 25th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    09-Dec-2022

سرديّة الحنين والمرارة

 الدستور-مجدي دعيبس

في روايته (الكويت بغداد عمان) الصادرة عن (الآن ناشرون وموزعون) يعرض لنا القاص والروائي أسيد الحوتري سيرة الخروج بكثير من الحزن والحنين والأمل بلغة غير متكلّفة وصادقة إلى حد الشجن والوجع. الخروج الذي بات قدرًا أكثر من أيّ شيء آخر، لكن على الرغم من كل هذه المعاناة وهذه التغريبة ما زال للفرح موضع يشعّ من ثنايا الرواية ويذكّرنا أنّ الحياة بكل مراراتها ما تزال قدرًا جميلًا.
ومن خلال التّنويه الذي أشار فيه الكاتب كما يتكرّر في أعمال كثيرة إلى أنّ أيّ تشابه بين أسماء الشخصيّات وأسماء من الواقع: «هو محض صدفة، والصدفة خير من ألف ميعاد، وعلى ميعاد حنّا والفرح كنّا»، يستشعر القارئ خفّة السرد التي تتعاظم مع تقدّم الرواية وتصبح سمّة عامة تخفّف من جدّيّة الوقع المعرفيّ الصارم في بعض المواقع، وتنوّع الإيقاع السرديّ وتطرد الملل وتحاول انتزاع ابتسامة خفيفة من شفتي القارئ.
ولا أعرف مدى تقاطع الأحداث التي مرّت بسعيد بالسيرة الذاتية للكاتب، لكن يبدو لي أن تفاصيل كثيرة جاءت من ذكريات طفولة المؤلف وحياته في الكويت. وهنا تجدر الإشارة إلى أنّه حتّى الكتب التي يثبّت عليها الكاتب تجنيس سيرة ذاتية أو غيرية فهي تنطوي على صنعة واشتغال حتى تصبح صالحة للسرد. وهذا يظهر أيضًا في رواية أسيد الحوتري التي مزجت الواقعي بالتخييلي للخروج بعمل إبداعي رصين. منطلقات الفعل الإبداعي واقعيّة في العموم لأنّ الكاتب يعيش في بيئة لها مشاكلها وأحلامها وتطلعاتها لكن سبل التعبير تتفاوت بين الواقعي والرمزي والغرائبي. في (الكويت بغداد عمان) سرديّة جمعيّة تعبّر عن ضمير الذين خرجوا من الكويت في عام 1991، وتنطلق من حب وحنين وسيل من الذكريات الجميلة التي لا تنفكّ تداهمهم في غدوهم ورواحهم. أوطان أحبّوها ولم تغادر وجدانهم؛ في فلسطين مسقط رأس الآباء وفي الكويت مسقط رأس الأبناء وفي الأردن مسقط رأس الأحفاد. يعزّ على الإنسان المكان الذي يصرخ فيه صرخته الأولى، فهذا أمر غريزي أكثر من أي شيء آخر؛ «فما الحب إلّا للحبيب الأوّل».
غير أنّ السرد المعرفي على طرافته فيه إطالة وإسهاب مقارنة بحجم الرواية، وبدا في بعض المواضع كتقرير صحفي أو برنامج وثائقي، ولعلي أجد العذر للكاتب لأنّ هذا الموضوع يؤرّقة ويريد أن يبوح بما يعتمل في وجدانه من تفسير وتعليل وتحليل لما حدث وما يحدث وما سيحدث. هناك تتبّع لحركة التّاريخ ودوافع هذه الحركة وتوقّف عند المفاصل المهمّة التي دفعت في اتجاه مفاجئ وغيّرت المصائر والمآلات. كما تنعش الرواية ذاكرة القارئ بما أغفلته كتب التاريخ بقصد أو بغير قصد من أحداث وشخصيّات لم تنل حقّها من التبجيل والإشادة.
يظهر من خلال السرد مدى اطّلاع الكاتب على المجتمع الكويتي وحياة الناس وعاداتهم، ولا يغفل عن المسرح الكويتي والدراما والرواية. كما حملت الأغنيات الخفيفة التي تواترت عبر فصول الرواية تاريخ الطفولة البريئة في أحضان الكويت، كما تجلّت من خلال كلماتها البسيطة والعفويّة مشاعر عميقة مرتبطة بالمكان والبيئة والحياة الاجتماعية وحملت معاني أكبر بكثير من مفرداتها السّلسة وإيقاعها اللذيذ. ولعل الكاتب، أقصد أي كاتب، ما زال يغرف من طفولته صورًا وأحداثًا وانفعالات حتى يرقد رقدته الأخيرة. ولم تخلُ هذه الأهازيج أيضًا من تاريخ اجتماعي وثقافي وبيئي، وخير مثال على هذا الأهزوجة التالية التي كان الأطفال يردّدونها في تنقلهم من بيت إلى آخر منتصف شهر رمضان مرتدين الإزياء الشعبية ليحصلوا على الحلوى من أصحاب الدّار: قيرقيعان وقيرقيعان/ بين قصيّر ورمضان/ عادت عليكم صيام/ كل سنة وكل عام/ يسلّم ولدهم يا الله/ خلّه لأمّه يا الله.
ويبقى البحث عن حبكة مختلفة الشغل الشّاغل للروائيين. في (الكويت بغداد عمان) اشتغال مختلف على حبكة تخرج عن المألوف والسّائد وهي ببساطة العلاج بالكتابة تارة وبالقراءة تارة أخرى. ما بين سعيد وسعد وما يعانيه كل منهما من مشاكل نفسية وحالات من الهذيان بسبب التجرية القاسية خلال الخروج من الكويت تتضح الحبكة شيئًا فشيئًا. يعمد سعيد إلى كتابة مذكراته وتدوين كل التجارب القاسية التي مرّ بها بإيعاز من أبي النور وهو رجل متبصّر ومثقّف وصاحب دار المثنّى للنشر والتوزيع . كانت الخطة أن يقوم سعيد بحرق هذه المذكرات عند الانتهاء منها وذرّ رمادها في البحر الميت للخلاص من مسببات القلق والهذيان ليعود إلى اتزانه السابق مع البيئة والناس، وهذا أمر له جذور حقيقيّة في علم النفس. لكن سعيد لا يقوم بحرق المذكرات التي تحولت إلى رواية ناجحة، وعلى الرغم من هذا تتحسن حالته ويمضي في حياته. أمّا سعد الذي يعاني من الحالة عينها فيشير عليه أبو النّور بقراءة رواية سعيد (هنا الكويت) لأنهما مرّا بتجارب مماثلة، وينجح الأمر تمامًا. وما أثار اهتمامي بموضوع العلاج بالقراءة ما أورده الكاتب على لسان أبي النّور بأن باحثتين بريطانيتين أعدّتا ما يشبه صيدليّة روائيّة من (751) رواية لعلاج شتّى الأمراض. وقد استغرق منهما هذا البحث (25) عامًا ثم أصدرتا كتابًا بعنوان: العلاج بالرواية: من الهجر إلى فقدان الشّهيّة. واتّضح من خلال السياق أن هذا الأمر له أصل تاريخي قديم في الحضارات الفرعونيّة والأشوريّة والبابليّة واليونانيّة والرومانيّة.
ويبقى أن نقول إن المشاهد الغرائبية التي ظهرت في بعض مقاطع الرواية لم تؤثر على واقعيتها وإنّما جاءت في سياق مقبول للبحث عن صيغ مختلفة للخروج من مأزق الحياة الغرائبي. ويذكر أنّ هذه الرواية هي الأولى في رصيد أسيد الحوتري الذي أصدر غير مجموعة قصصيّة، وهو بالإضافة إلى هذا ناشط ثقافي في منتديات ومبادارت أدبيّة.