Friday 26th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    24-Oct-2020

تـشــريــنـيـــات

 الدستور-نسرين غازي أبوالرب

في أُولى صباحات تشرين الهدوء يلف الكون من حولي. حظر شامل لمنطقتنا من جديد، العصافير غادرت المكان والزنابق اختبأت، المنطقة من حولي معزولة، إلا من رحمة الله. شمس خجولة في سماء تشرين وأرض تنتظر أول قطرة. وتشرين المسكون بلوعة الفراق. الناس اختبأت في بيوتها هرباً من كورونا تتطارد البشرية كالشبح. نحتاج إلى قوة نفسية لاجتياز المرحلة، فنجان قهوتنا مليء بالحكايا والأحزان. لم نلتق بالمغتربين منذ عام ونيف...
 
تشرينيات ووجع الغياب والفراق.. وأمنيات على بوابة السماء أن تعود حياتنا لسابق عهدها
 
***
 
استيقظنا ونحن داخل فقاعة من الصمت والسكون البهيم، أعادت إلى ذاكرتنا الحظر قبل أشهر خلت. لا أسمع إلا صوت قرقعة الأواني في بيوت الجيران،وطفل صغير ينادي أمه.
 
مروحة قابعة في سقف غرفتي تدور ببطء معلنة أن الدوران سُنة الكون وتبدل الحال ليس من المُحال، أُسرّح ببصري في سقف غرفتي تتخطفني مشاعر مختلفة. زامور سيارة الشرطة في شارعنا قطع حبل أفكاري الغارقة في سقف غرفتب. واستذكرت وجع التشارين والغياب ولم تقو يدي أن تبحث في صور هاتفي العتيق عن أخوتي المغتربين. عام ونيف لم تبصرهم عيني ويدي الناكئة بجراح الحرف والبوح وضعتُ عليها ملحاً. هل التشارين هذا العام وكورونا تحمل موتاً زؤاماً وفقداً وتشرذم نفسي للعباد؟ ووسط عاصفتي الروحية،ادّلهمَ الغيم ونزل مطر الخير وزيت قلبي يضيء برحمة الله التي تملأ الكون.
 
***
 
لا أبرح مكتبي وأفكاري تعشش في زوايا مخيلتي، أنافي ناموس خاص بي قهوتي، وأوراقي البيضاء وقلمي.
 
خذوا مني روحي ولا تسرقوا مني قلمي وأوراقي البيضاء. أكثر من اتصال هاتفي ورسائل للاطمئنان علينا في الحظر. أنا أسكن داخل روحي وأعيش خلوة الأديب الخاصة به أحتسي قهوتي وأُطعم الأوراق مداد حبري. لا أسمع إلا صوت دقات الساعة الرتيبة المنتظمة على جدار قلبي دقات منتظمة ليست كفوضى المشاعر التي نعيشها في زمن الكورونا.
 
أصبح لبيتي جناحان قويان وحلّق كنسر فوق ذرى الجبال، أنا هنا أستقر لا ضجيج. لا قلق، لا هواتف مزعجة ولا صوت البائع المتجول وسيارة الغاز.
 
أعيش عزلتي بمحض إرادتي وبسعادة غامرة وأقف على ناصية الشِعر والقوافي لا أبرحها، أودع الكون وشقاوته من حولي وأجلس على قمة الجبل، حملني بساط الريح وعاد بي إلى الوراء إلى زمن خالٍ من الوباء، أمي تجمعنا أمام صنع يديها الطاهرتين المسخن البلدي في بواكير التشارين وجدي «استعدوا اقترب قطاف الزيتون» وأبي يأخذنا بسيارته العتيقة الجميلة وأولاد عمي إلى حبيبة في وسط البلد لا أنسى حصتي من الكنافة الخشنة الساخنة والجبن يتدلى منها كخيوط الحرير.
 
كان للمة العائلة عبق خاص وضجيج أخوتي كطبول الفرح في يوم النصر، لم نكن نحسب للتباعد المكاني حساباً.. أوصلني بساط الريح إلى غيمة بيضاء تسكن في جوف السماء ووقفت عليها على أطراف أصابع قدمي، لا أسمع همساً، أي عزلة حميدة ومحمودة تلك.
 
حيرة.. تساؤلات...
 
افكار متلاطمة كموج هدّار... ضيق يعتري الصدر كزفرة روح حال خروجها من الجسد..
 
جلست على طاولتها المستديرة في غرفتها المستديرة وسؤال عالق في كل غرفتها منذ مطلع التشارين غابت الرسائل، هل لأنه تشرين الغياب ووجعه،
 
انحنت إلى الأمام وقهقهت بأعلى صوتها وتساءلت كبلهاء تلبس ثوبها الأبيض يحملونها إلى عيادة الطب النفسي هل للبشر فترة صلاحية كما للمواد الغذائية؟
 
حاولت أن تقف على قدميها وارتجفت كقصبة أمام الريح.. وعاد السؤال يطن حولها كذبابة صيف شقية، لم غابت الرسائل منذ مطلع تشرين؟ وحتى الردود غابت!
 
هل بلغت من الفكر عتياً وأصبحت كمزهرية عتيقة في بيت مهجور ليتم ردم رسائلها بغياهب الجُب؟
 
جلست فوق الطاولة المستديرة وسمعت صدى سؤالها.. عاد من الجدران الفارغة في غرفتها..
 
ذبلت وهي تصرخ باحثة عن جواب كشمعة انتهى فتيلها وانطفأت
 
ونام السؤال إلي جانبها كلما غلبها النوم نهرها كمهماز الفارس وأيقظها من جديد.
 
قررت أن تغادر غرفتها المستديرة وتقف على حافة شُرفتها وصرخت بالمارة، والتفتوا إليها نظرات عطف وشفقة..
 
عادت إلى فراشها الوثير ودفنت رأسها تحته وهاجمها نصل السؤال وسكّينه.
 
لحظات.. دارت في غرفتها عاصفة هوجاء وحملتها إلى مثواها الأخير والسؤال.. شاخص على شاهد قبرها: (إذا زارت مثواي لتنقش جواباً على شاهدي الأخير لم غابت الردود منذ مطلع التشارين)
 
***
 
تشرين يا وجع الفقد والغياب، بالله عليك أن تترفق بروحي التي باتت مترعة من كأس الألم والقهر، تشرين اخلع ثوب الفقد والغياب الموشح باللون الأسود وتسربل الفرح والبِشارات، اخرجْ عن صمتك وأشهرْ سكين الرفض في وجه كل من ألصق بك مسميات الحزن والفقد.
 
عندما مشتْ الكورونا على أطراف أصابعها وتسللت كفتاة خرساء إلى جسدها وأودعتْ الحمى عظامها كل ليلة خِفتُ منك يا تشرين، واستجديتُك رحيلاً سريعاً وعندما علمتُ أن الكورونا طافت حول بيتها ونزلت منازلها وباتتْ في رئتها الطاهرة حفرت الدموع السجام أخاديد على وجنتي.
 
وارتشفتُ من مَعين الصبر وأطلتُ السجود لله، يا رب كن عوناً لها ولكل عِبادك.
 
تقهقرت الضحكات وساد الكون صمتاً مطبقاً، طيور مهاجرة في كبد السماء وغيوم بيضاء متناثرة على أطراف الصفحة الزرقاء مُنذرة بشتاء قادم.
 
اعتدنا على الحظر وأن نتشبث برغيف الخبز وبقاياه من أجل أولادنا فالقادم كنهه مجهول.
 
مسكين يا تشرين لم تحملْ لنا هذا العام إلا الوباء وأحلاماً باتتْ في سابع أرض.
 
رأيتها شامخة صلبة كالسنديان تصارع الرياح وتقارع زمجرة العواصف بثبات وصلابة،تنهل من حوض الإيمان والأمل بفرج قريب، ولكنّ نفسي يطغى عليها الألم والصمت المُطبق حتى تلملم الكورونا ثيابها الباليه وحقائبها المهترئة وترحل من حيّها ومن الكون أجمع لتصبح ضرباً من النسيان.
 
تشرين.. ترفقْ بقلبي ولا تبث في روحي ألماً.