Wednesday 1st of May 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    08-Nov-2017

بلفور والمسؤولية البريطانية عن مأساة الشعب الفلسطيني - عبد الرحمن البيطار
 
الغد- المقدمات التي قادت الى إصدار ما أصبح معروفاً بوعد بلفور، مهمة، لكن الإلمام بتفاصيلها وإن كان مهما، الا أنه لا يغير من الأمر شيئاً،.. فالجهة التي تتحمل المسؤولية عن إصدار الوعد هي الحكومة البريطانية، فهي التي أقرَّت في جلستها المنعقدة في 2 تشرين الثاني (نوفمبر) 1917 إصدار الوعد، أما بلفور الذي وشّح القرار باسمه، فقد أراد أن يقول للحركة الصهيونية التي انعقد مؤتمرها الاول في آب 1897 أنه تمكن بعد عشرين عاما من انعقاده من استصدار القرار الذي يلبي متطلباتها والتي عبّر عنها هيرتسل في كتابه "دولة اليهود"، وفِي خطابه امام ذلك المؤتمر من أن أهداف الحركة كي تتحقق، تتطلب أن تتحول الى تشريع تلتزم بتحقيقه دولة مسؤولة عن أراضي فلسطين، كالدولة العثمانية، او دولة كبرى (أو دول) ذات وزن وقرار على مستوى الساحة الدولية، تصدر اعلاناً رسميا صريحاً عن موقفها في هذا الخصوص. وقد تمكن بلفور من دفع الحكومة البريطانية لأن تكون هي تلك الدولة التي تتبنى مطالب الحركة الصهيونية، مستفيداً من المركز الذي اكتسبته بريطانيا في كونها قد خرجت من الحرب الكونية الاولى منتصرة.  
القرار الوعد الذي أصدرته الحكومة البريطانية جاء بعد ان كانت الجيوش البريطانية قد تمكنت قبل شهور قليلة فقط من اختراق حدود فلسطين مع مصر، وقبل نحو خمسة أسابيع من عبور الجنرال أللنبي نهر الاردن واحتلاله لمدينة القدس. لكنه يأتي أيضا بعد نحو سبعة عشر شهراً من إبرام معاهدة سايكس بيكو السرية التي اتفقت فيها بريطانيا وفرنسا (وروسيا القيصرية)، على تقاسم تَرِكة الامبرطورية العثمانية المنهزمة في الحرب من أراضي بلاد ما بين النهرين، والبلاد السورية بما فيها فلسطين وشرق الاردن ولبنان التي كانت قد احتلتها في 1516، أي قبل أربعة قرون من إبرامها. 
ومن اللافت، ان المعاهدة أُبرِمَت أيضاً قبل شهر واحدٍ فقط من إعلان الشريف الحسين بن علي انطلاق الثورة العربية الكبرى في الاراضي العربية الممتدة من جبال طوروس وعبر بلاد ما بين النهرين وبلاد الشام والأراضي الحجازية في الجزيرة العربية، وذلك بعد شهور من الاتصالات والمكاتبات السرية فيما بينه وبين المندوب السامي البريطاني المقيم في مصر، والتي أعلن فيها الشريف وقوفه ضد الدولة العثمانية في الحرب الكونية الاولى مقابل تعهدٍ غامض من البريطانيين بدعم قيام كيان عربي مستقل على أراض سيتم تحريرها من العثمانيين، ومقابل قيام الحكومة البريطانية بتدريب الثوار العرب ومدهم  بالاسلحة والذخيرة والخبرات والمعلومات والاموال والمساعدات اللوجستية، لتمكينهم من المساهمة في الجهد العسكري ضد العثمانيين. 
وبذلك، تكون الحكومة البريطانية ومنذ أيار من العام 1916 الذي تمَّ فيه إبرام معاهدة سايكس بيكو كرّست سوء نيَّتها تجاه تطلعات الشعوب العربية نحو الحرية والاستقلال عن الأتراك وخيانتها لها على نحوٍ صريحٍ وصارخ وذلك من خلال المؤشرات التالية: 
• تقاسم النفوذ فيما بينها وبين حليفتها فرنسا في الأراضي التي كان الشريف الحسين يُزْمِع إقامة المملكة العربية المستقلة عليها، ضاربة بعرض الحائط بكل التعهدات التي قطعتها للشريف وأولاده. 
• وضع حصة بريطانيا من البلاد التي تم طرد القوات العثمانية منها تحت الاحتلال البريطاني المباشر وإقامة ادارات وسلطات بريطانية عليها، وممارسة الحكم فيها من خلال الحكام العسكريين ومندوبي بريطانيا المعينين مباشرة من قبل الحكومة البريطانية. 
• السماح لفرنسا وهي حليفة بريطانيا في الحرب بقمع الوحدات العسكرية العربية المشكلة من الثوار الذين شاركوا القوات البريطانية في طرد القوات العثمانية من الأراضي العربية، وعدم توفير أي حماية لتلك القوات، وإسقاط الحكومة العربية التي شكَّلها الامير فيصل والثوار السوريون العرب، وبالتالي تمكين القوات الفرنسية من الاستحواذ على حصتها بموجب معاهدة سايكس بيكو واحتلال الاراضي السورية واللبنانية، وإقامة نظام حكمٍ احتلالي على أنقاض هيئات الحكم الوطنية التي كان الثوار السوريون منخرطين في إقامتها في ذلك الوقت.    
• اتخاذ الحكومة البريطانية القرار بإصدار وعد بلفور في بداية تشرين الثاني 1917 بعد شهور قليلة من دخول القوات البريطانية أراضي شرق الاردن وفلسطين ونجاح الثوار العرب مدعومين بالقوات البريطانية في طرد القوات العثمانية منها، والذي يتضمن نصّه تكريس القواعد التالية: 
- استثناء أراضي فلسطين بصورة رسمية من التعهدات البريطانية المقطوعة للشريف الحسين وأولاده، هذا مع إكساء الغموض على حدود أراضي فلسطين المشمولة بـ"الوعد". 
 - عدم إقامة أي اعتبار لشعب فلسطين المقيم على أرضه منذ مئات السنوات، واعتبار الأغلبية السكانية العربية الفلسطينية، حسب نص الوعد،  مجرد طائفة "جالية"، تتمتع فقط بحقوق "مدنية ودينية". 
 - مصادرة الحقوق الوطنية والسياسية لشعب فلسطين أي للأغلبية السكانية العربية المقيمة على الأرض الفلسطينية، وتجييرها لمجموعات بشرية من يهود اوروبا والعالم، لا تتمتع بحق الإقامة او المواطنة ولم تكن في حينها مقيمة على أرض فلسطين.
- الالتزام للحركة الصهيونية بدعم مخططاتها لاتخاذ فلسطين مقراً ووطناً ليهود أوروبا والعالم، بما يعني تشجيع الهجرة إليها وتمكين اليهود من السيطرة على مقاليد الأمور فيها. 
- إقرار مبدأ عدم المساس بحقوق اليهود في بلدان العالم التي يقيمون فيها، والتي سيهاجرون منها الى فلسطين، بما يعني منح مواطني دول أخرى من اليهود حقوقاً غير عادية وغير معهودة في القانون البشري الإنساني. 
وعلى الرغم من أن الحكومة البريطانية لا تملك عند إصدارها الوعد ولا بعده أي حق مشروع في إصدار قرارٍ من قِبَلِها يتعلق بأرض لا تملكها، وبسكان ليسوا من رعاياها او مواطنيها، الا أنها ضربت بعرض الحائط بكل ذلك، وتمادت وسمحت لنفسها بدون أي حق أن تتصرف وكأنها تملك الحق المطلق بالتصرف بالناس وبأمورهم وبحقوقهم وبممتلكاتهم كيفما تراه مناسباً لرؤيتها ولمصالحها، وهذا أمرٌ غير معهود في تاريخ البشرية وعلى الأخص في عهودها الراهنة. 
لم تكتفِ بريطانيا بإصدار قرار "الوعد"، وانما استغلت كونها دولة محتلة لأراضي دولة عدوّة، وتصرفت بناء على ذلك معتبرة الحاكم العسكري البريطاني المعين من قبلها لفلسطين ذا صلاحيات مطلقة في التصرف.
 ولم تتوانَ دولة الاحتلال البريطاني عن العمل على تنفيذ الوعد، فسمحت لوفدٍ من الحركة الصهيونية بعد أقل من أربعة أشهر من احتلالها للقدس، أي في نيسان 1918 بزيارة القدس وفلسطين، لدراسة ما يتوجب عمله من أجل وضع الترتيبات اللازمة لتنفيذ الوعد على الأرض،.. وعملت في ذات الوقت على الاتصال بالسكان المحليين من خلال القيادات الدينية والبلدية والقضاة وبمخاتير القرى وشيوخ العشائر، وغيرهم لإبلاغهم بما تسعى الحكومة لتحقيقه، ومارست منذ البداية الضغوط وقدمت الإغراءات التي استهدفت إجهاض او كبت أي مقاومة محلية قد تهدد تحقيق المخططات البريطانية في فلسطين. 
ولاستكمال شروط تحقيق المخطط المُعَبَّر عنه في القرار "الوعد"، كان يتعين على الدولة المنتصرة في الحرب، أي بريطانيا العظمى،  أن تُـسَخِّر مؤتمرات السلام التي انعقدت لتسوية الأمور الناشئة عن الحرب الكونية الأولى، وأن توجه دَفَّة الأمور باتجاه استخراج القرارات من المنظمة الدولية التي أنشأتها الدول المنتصرة في الحرب، أي من "عُصْبَة الأمم" بما يُمَكِّنها من تحقيق مخططات الحركة الصهيونية، والتي جاء القرار "الوعد" ليُعَبِّر عنها، وفِي هذا الخصوص، فإنه يُلحظُ ما يلي: 
- سعت حركة الثوار العرب في بلاد ما بين النهرين وفِي البلاد السورية والحجازية للحصول على تمثيل لها في مؤتمرات السلام التي انعقدت بعد انتهاء الحرب (1918 - 1921)، كما سعت الحركة الوطنية المصرية للحصول على التمثيل في تلك المؤتمرات، رغم مقاومة بريطانيا لذلك. 
- عملت الحكومة البريطانية بالتعاون مع عدد من حكومات الدول المنتصرة في الحرب، على انتزاع اعتراف من مؤتمرات السلام المنعقدة خلال الفترة التالية مباشرة لانتهاء الحرب الكونية (1918 - 1921) باعتبار الحركة الصهيونية حركة قومية مشروعة الأهداف، واعترفت بممثليها وبحقهم في المشاركة في فعاليات تلك المؤتمرات. وبذلك، وجد الممثلون العرب المشاركون في تلك المؤتمرات أنفسهم، جنباً الى جنب، مع ممثلي الحركة الصهيونية، يتقدمون بمطالبهم الى تلك المؤتمرات، ويسعون لنيل تأييد ممثلي الدول المنتصرة في الحرب. 
 - سَعت الحكومة البريطانية وحاولت وضغطت باتجاه انتزاع موافقة من الممثلين العرب في مؤتمرات السلام، لقبول مبدأ إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين ضمن المحددات والاشتراطات  الواردة في "الوعد". كما عَمِلَت على تنظيم لقاءات واجتماعات بين ممثلي الحركة الصهيونية والممثلين العرب خلال الفترة الممتدة بين عامي 1918 و1920، تستهدف بناء تفاهم بين هؤلاء الممثلين، يُهَيئ الأرضية لتنفيذ القرار "الوعد" على قاعدة أن ذلك من شأنه أن يُسَهّل تحقيق التطلعات العربية في الاستقلال خارج حدود فلسطين، وان التعاون مع الحركة الصهيونية من شأنه ان يساعد على خلق شروط مؤاتية للتنمية الاقتصادية والازدهار.
- تمكنت الدولتان الاستعماريتان بريطانيا وفرنسا من تعطيل العمل  بمبدأ "حق تقرير المصير" الذي نادى به الرئيس الاميركي ويلسون في تلك المؤتمرات وحاول إرساء العمل به، وتمكنت من انتزاع الموافقة على اعتماد مفهوم "الانتداب" و"الدولة المُنْتَدَبة"، وتكريس مفهوم أن الكثير من شعوب العالم، ليست على مستوىً كافٍ من التقدم لتتمكن من حُكْم نفسها، وأن لـ"عُصْبة الأُمم" بصفتها كيانا دوليا مُشَكّلاً من الدول المُتَمَدِّنة المنتصرة في الحرب الكونية الاولى الحق بفرض الانتداب على الشعوب المُعْتَبرة "غير مُتَمَدِّنة"، وأن تختار من بين أعضائها مَن يتولى الاضطلاع بمسؤوليات "الدولة المُنْتَدَبة"، شرط أن تقوم تلك الدولة بتقديم تقارير دورية لعُصبة الأُمم عن التقدم الذي تُحْرِزَه في "تمدين" تلك الشعوب والأوطان "غير المُتَمَدِّنة". 
 - تمكنت بريطانيا من اعتبار "فلسطين" وطنا وشعبا يحتاج "لتمدينه" وبالتالي، فإن ذلك يستدعي فرض "الانتداب" عليه، وتمكنت بصفتها الدولة المُحتَلّة لفلسطين مِنْ أن تفوز بتعيينها لمركز"الدولة المُنْتَدَبة"، وتمكنت أيضاً مِنْ تمييز انتداب "فلسطين" عن غيره من الانتدابات التي أقرتها العُصبة، بتكليف بريطانيا ليس فقط "تمدين" شعب فلسطين، وإنما أيضا بإجراء كل ما يلزم لتحقيق "الوعد" بإقامة وطن قومي لليهود فيها، بما لا يؤثر على الحقوق "المدنية والدينية" للطوائف "غير اليهودية" التي تعيش فيها،... وبذلك، تكون بريطانيا انتزعت لصالح الحركة الصهيونية قرارا من الدول المشاركة في تكوين عُصْبة الامم تعترف به تلك الدول بحق الحركة الصهيونية في إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين ومسخ الحقوق الوطنية والسياسية لشعب فلسطين العربي المُشَكِّل للأغلبية السكانية فيها وتقليصها الى مجرد "حقوق مدنية ودينية"، وتجيير تلك الحقوق (اي الوطنية والسياسية) لمجموعات بشرية من يهود اوروبا والعالم لم تعرف فلسطين ولم تكن وليست مقيمة فيها!
بعد إحراز كل تلك المكاسب للحركة الصهيونية،.. قامت بريطانيا في تموز 1920 بتعيين اول مندوب سامي لها في فلسطين، واختارت لذلك بريطانيا صهيونيا يهودياً. 
خلاصة: 
الاستعراض أعلاه، يقدم مُلخَّصا لحجم الجرائم التي ارتكبتها الحكومة البريطانية بحق شعب فلسطين خلال الفترة الممتدة ما بين تشرين الثاني 1917 وتموز 1920. 
ان جذر وأصل كل معاناة لكل عربي فلسطيني ابتداءً من تاريخ احتلال بريطانيا للقدس في 12 كانون الأول 1917 وحتى تاريخه يعود لبريطانيا الاستعمارية، ومع ان شعب فلسطين العربي لم يتسبب للشعب البريطاني بأي آلام، فإن الحكومات البريطانية المتعاقبة منذ العام 1917 ما تزال تُمْعِن في إيذاء الشعب الفلسطيني وفِي تعميق مأساته عبر الاستمرار في إنكارها لحقوقه الوطنية والسياسية ولحقه في تقرير المصير على أرضه وفوق ترابه الوطني. 
الشعب العربي الفلسطيني يستحق من الشعب البريطاني الاعتذار عما تسببت به سياسات حكوماته من آلام وعذابات له. وآن الأوان لأن يُرْغِم حكوماته ان التعامل مع حقوق الإنسان هو مسألة غير قابلة للتمييز، وان الشعب الفلسطيني هو كالشعب البريطاني ينتمي لذات الفصيل الإنساني ويستحق أن يتم التعامل معه بلا تمييز.