Thursday 25th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    11-Sep-2020

وقفة تأملية في واحة الأديب عادل علي جودة

 الدستور-أسماء مبارك

 
ماذا لو وقفنا في واحة أديبيغرس في نصوصه مكونات بيانية وبلاغية تتناغم فيها الحروف، وتتباين فيها فنون الأدب كافة. هو كنز من كنوز الإبداع وظاهرة فريدة في الشعر والنثر والكتابة القصصية والمقال والنقد الأدبي. فهو كاتب له أسلوبه الخاص وطريقته الخاصة في كتابة المقال من حيث شموليته واستيفاء عناصره، وقاص عبقري يترجم مشاعره وأحاسيسه باقتدار مذهل، وشاعر متفرد يعتمد على القصيدة الشعورية والحس الروحي ميداناً رئيساً لفضائه الشعري الإبداعي. وهو أيضاً ناقد بارع، ذو فكر متوهج، وبصيرة ثاقبة، واطلاع واسع، أثبت قدرته على سبر أغوار عميقة من التجارب الأدبية والكشف عن مكنوناتها الفنية والجمالية. وهذه الفنون متضافرة تشهد بأنه يمتلك ناصية الإبداع والإدهاش الفكري البنّاء. عندما أقرأ له أشعر أني أمام قامة سامقة شامخة لا يشق لها غبار في ميادين الأدب. إنه صاحب هذا الطيف؛ الأديب الكبير د.عادل علي جوده؛ المقيم في المملكة العربية السعودية.
 
أود أن أشير في هذه الوقفة التأملية إلى بعض كتابات أديبنا الكبير، إلى روافده الغزيرة، وإمكانياته اللغوية الأدبية الثرية في توظيف المفردات الدلالية والجمل السياقية الملائمة إيقاعاً ونحواً وصرفاً وبلاغة وبياناً. إن ما لفت انتباهي وأثار ذهولي أنه في صياغته للنصوص الأدبية النثرية والشعرية يعتمد على تقنيات أسلوبية يوظفها على نحو يثير وعي المتلقي وذائقته الأدبية.
 
في إحدى حدائقه الأدبية الأخيرة من سلسلة «اتفقنا أم اختلفنا»، يقول أديبنا:
 
«مُخْطِئٌ يَا صَدِيقِي
 
مَنْ اعْتَقَدَ أَنْ الدَّمْعَةَ زَلَّةٌ
 
فَالدَّمْعَةُ إِذَا مَا نَثَرَتْهَا الْمَآقِي عَلَى الْخَدَّيْنِ
 
فَإِنَّمَا هِيَ كَإِطْلَالَةِ قَمَرٍ
 
مِنْ نَافِذَةِ السَّمَاءِ فِي ظُلْمَةِ لَيْلٍ
 
كَإِطْلَالَةِ قَمَرٍ يُرْسِلُ هَالَاتِهِ نِدَاءَ بُشْرَى
 
لِلْأَمَانِي كَيْ لَا تَنْقَضِي
 
وَلِلْأَحْلَامِ كِي لَا تَنْتَهِي
 
كَإِطْلَالَةِ قَمَرٍ يَمُدُّنَا عَبْرَ ضِيَائِهِ بِأَنْفَاسِ أَمَلٍ
 
نَحْتَضِنُهَا بِنِيَاطِ قُلُوبِنَا كَيْ نَمْضِيَ نَحْوَ غَدٍ ـ بِحَوْلِ اللهِ ـ أَحْلَى»
 
يأتي الدمع عادةً بعد الإحساس العميق الذي ينتاب الإنسان، بحيث يكون تعبيراً عن حال ما ويقول أن الدمع صنو الإحساس وقرين الإنسانية، ففي رياض المحبين وحدائق الوله، تغدو الدمعة دليلاً على عمق الوصال والوفاء، كل دمعة هي عودة باللحظات الحميمة وتخليد لها، والمقصود بالدمع في هذا النص ليس تجدُد ألم الفراق، لأنَّ وجود الأحبة خالد، مستقر في القلب، وهو مُكَوِّن للدمع، هذا الـ» دمع» المقدس في تفاصيل الإحساس الشعوري حتى الثمالة، ففعل الدمع هنا بمثابة الوصال الرمزي الذي يصوغ منه الشاعر جميع ما يستشعره، ويشعر خلاله بنبض الأحبة، وبالتالي ليس غريباً ألاَّ يكون الدمع زلةً للرجل بخاصة، إنما لتعزيز رابطة الحب وتقوية جذور الوفاء، وفوق هذا وذلك، يأتي الدمع كموطن للأمل كما القمر الذي يضئ ظلمة الليل. أي أن أديبنا لا يقود الدمع للتسامي النفسي والروحي وحسب، بل يجسده كما الأمل ويجعله كائناً حيّاً محبوباً ومحموداً.
 
يرى أديبنا أن الإحساس كما اللفظ؛ له رحيقه وأوراقه الغضة والتفافاته المكتنزة بالطيات، وليس سهلاً فك هذه الطيات في واحة الدلالة دون أن تتبرعم وتزهر في خيال القارئ، فالكلمات تتبعها أحاسيس ملموسة، ودلالات مكثفة، وهذه خاصية السرد لدىأديبنا، ليس هناك في كتاباته عبارات أدبية فقط أو بلاغية فقط، إنما عبارات حسية أيضاً، أو بالأحرى معجونة بنبض الإحساس الصادق العميق، فكل عبارة مرسومة بدقة كأزهار غضة بجميع الألوان.
 
فالعبارات عامرة بالجمال وتشي بالغنى والتنوع. فتارة تكون مشرقة كضياء الشمس، لكنها تستحضر غسقاً بألوان عميقة متداخلة، وتارة أخرى تكون مبللة بالدمع العالق في شغاف القلب، وهذا ما يجعل لها خصوصيتها، وتفردها البلاغي المذهل.
 
فماذا لو عصفت أعاصير الشوق بجناحي القلب، وحاولت ذئاب الوله النيل منه؟ وماذا لو حكمت عليه السنون والأيام بالآه والدمع؟ ماذا لو أمسى هذا الدمع وهذه الآههما السلوى حين يستفيق القلب على صوت الحنين؟ فهذه القصيدة على اقتضابها في أبيات معدودة مكثفة الدلالة، أبت إلا أن تتألق بفيض مشاعرأديبنا، فهي قصيدة تجرعت بحور الدمع والآه.
 
لذا، من أراد أن يدخل محراب كتابات أديبنا عليه أن يتنفس الصعداء لأنه على موعد مع الإبحار إلى أدنى نقطة في عمق البحر؛ كي يجمع ما شاء من لآلئ دفينة خبيئة، وربما عليه أن يبصر في قاع ذلك البحر الذي يشهد على أنه بحر هائل من الإبداع، ويتلمس بأنامل خياله جذوة الإبداع المتقد في حروفه،ويطلق العنان لذائقته لترتشف ما يتسنى لها تذوقه من أطياب البلاغة والجمال، مما لا يخطر له على بال، ويوقفه وقفة للتأمل والتمعن بما يجود به بحر إبداعه. رأيت ذلك الجمال في نصوصه التي تتوهج وتشع تفرداً، الأمر الذي حفز فضولي إلى استبيان الدرر الكامنة في أعماقه، والغوص في معانيها، ولكن البحر واسع وعميق ورحلة الإبحار فيه طويلة، وهأنذا الآن أغوص فيه وألملم بعض لآلئه الكامنة في صدفاتها وأدرك أنها كثيرة جداً، ولا يمكن لخيالاتي حصرها كلها.
 
حين أقرأ لأديبنا يأخذني في متاهات الذهول إلى حيث أحتار أي وجهة أقصد، فجماليات الأسلوب لا تحصى، وروافد البلاغة تتفرع بين سحرالتصوير، والمجاز، والرمز، والاستعارات، والكنايات التي وظفها بعيداً عن المألوف، وفاءً للمشاعر وإثارة لخيال القارئ، وأقول إنه تجاوز ذلك بما انطوت عليهنصوصه من بليغ العبارة، وسعة الدلالة، وعمق الفكرة، وعبقرية النظم والسبك، وحدَّة التركيز في الانتقاء بدقة، لتتوالد منها دلالات غير مألوفة في التركيب، تصنع للقارئ عالماً بلاغياً يضج بالإبداع الخلاق، فيكسر النمطية عن طريق استحداث لغة جديدة تتمرد على كل اللغات الشعرية والنثرية.
 
لقد خاض غمار النثر والشعر فأثبت أنهشاعر معاصر أصيل، بما تجلى في نصوصه من متانة النظم، وفخامة السبك، ودقة اللفظ، وزهو الإحساس، دونما تكلف أو تصنع، لا سيما وهو يمثل في حد ذاته معجماً لغوياً زاخراً، وتمكناً ملموساً من قواعد اللغة العربية يمكنه من تطويع المعاني وبناء النص بأسلوب لافت يعكس بصمته وخصوصية بيانه.
 
الْحُبُّ صَنْوُ الزَّمَانِ
 
يَـبْقَى وَلَا يَمْضِي
 
فَإِنْ تَبَدَّلَ الْمَكَانُ
 
فَفِي الْقَلْبِ ذِكْرَاهْ
 
وَالْعِيدُ دُونَهُ
 
يَغِيبُ وَيَأْتِي
 
فَإِنْ غَابَ الْحَبِيبُ
 
فَسَلْوَاكَ يَا عِيدُ دَمْعٌ وَآهْ
 
يكشف النص حيثيات رحلته في الغربة والفراق وما تمخض عن الاغتراب من شعور نفسي إنساني داخلي، في جمل اسمية مختزلة تتناول الإخبار، وأخرى فعلية مضارعة تسرد الحدث، في حضور مستمر للمعاناة.
 
في استخدامه الجملة الاسمية في مطلع النص بيان في الإخبار يؤكد على أن الحب صنو الزمان، في مقابلة سبب ونتيجة من أنه يبقى ولا يمضي، وفي تقديم شبه الجملة حين قال «فَفِي الْقَلْبِ ذِكْرَاهْ» تصريح جاهر بغرض التأكيد على ما يجيش في قلبه مما نجم عن الغربة من تمزق في الروح، كحالة ثابتة، من حيث أنها بفعل استقرارها في القلب وثباتها فيه، وهنا استخدم الإخبار المعزز بـحرف الفاء للتأكيد على مشاعرهالإنسانية الصادقة المجسدة تجسيداً معنوياً بمحسوس وهو القلب، فما نفع القلب دون الأحبة، ليأتينا بدلالة مكثفة أخرى لعمق الألم، ويدعو على سبيل الاستعارة المكنية إلى أن العيد دون الأحبة يَغِيبُ وَيَأْتِي، وهناشعور حزين حارق، فكيف للعيد أن يكون عيداً في غياب الأحبة؟!! وفي حزن انفجاري شديد عاود استخدام «الفاء» مجدداً للتعبير عن معاني الضعف والعجز والخضوع، فالفاء هنا تفيد التسبيب، إذ إنالعيد في غياب الأحبة دمع وآه.
 
وفي الشطر الأخير: فَسَلْوَاكَ يَا عِيدُ دَمْعٌ وَآهْ، أكاد أسمع نشيجه وتماهيه الروحي، فالدمع والآه بنيا تشكيلاً شعورياً جديداً منح الانفعال رقعة كبيرة أثرت المعنى، وفي الوقت ذاته استخدامه للآه الساكنة حقق انسجاماً عذباً، ما أحدث نغماً إيقاعياً في النص بأكمله.
 
وتبقى القصيدة تنثر خيوط إيحاءاتها هنا وهناك، وهنا يكمن الإبداع الشعري، حين تبث اللفظة الواحدة في السياق إيحاءات مختلفة يتوارى مراد الشاعر بينها، وهذا شأن الشاعر حين يكتب دون أن يفصح أو يومئ باسم الحبيب، حتى يبقى التأويل طليقاً في القصيدة.
 
أما بالنسبة لعنوان القصيدة، فقد خرج عن نطاق كونه عتبة لولوج النص، فهو أشبه ما يكون بومضة شعرية تقوم على عمق دلالي كبير، تحمل مناجاة قلب صبور جلود، لكنه في الوقت نفسه يعبق بالحب والدفء والحنان والجمال، فهو العاشق الذي يمنح الكثير من الحنان لساكنيه، لكنه اليوم يفتقدهم، فيعصف به الشوق، وفي كتابته لهذا النصأراد شاعرنا الكبيرالقول أنَّ مَثَلَ وجودهم فيه وحوله كمثل ابنٍ بارّ لا يفارق أباه، وما امتلك سوى حروفه التي تقوده إلى ملاقاتهم ليحتضنهم من خلالها.
 
كما أنه وظف الخيال الحسي وجمع بين المتباعدات حين قال: العيد سلواه دمع وآه، فكيف للعيد وهو موسم الفرح والمسرات أن يشعل الحرائق في العين والقلب؟ هنا خروج عن المألوف في العلاقة بين الدال والمدلول، يصيب القارئ بالدهشة من عمق الفكرة، والتصوير اللافت المفضي إلى التناغم بين ألفاظ وظفها بعناية توظيفاً يفسح للقارئ مناخاً يتخيل فيه ما يحمله من الألم والأسى في غياب الأحبة، وهذا يثير مشاعر القارئ ويجعله يشاركه تجربته الشعورية الشعرية والانطلاق معه على صهوة ألف ممدودة بالعذابات لتنتهي بـ «هاء» أسكتها الوجع.
 
وكان للمحسنات البديعية حضورها الواضح في هذا النص، فهو على اقتضابه متخم بتوظيف آلية التضاد، حين عرض شاعرنا بشكل لافت مفارقات تقوم على التضاد وقدمها في ثنائيات، مثل الزمان والمكان، يبقى ولا يمضي، ويغيب ويأتي، مما أفضى إلى تنوع صور التضاد «الطباق»، لتصور حالته النفسية والشعورية من الألم والحزن، ما فرض حضور حرف الفاء الذي أحدث انفراجاً في الشفتين عند النطق به، كأنه يستجدي مخرجاً لمشاعره المحبوسة داخله.
 
والمدهش أن أديبنا يفعل كل ذلك بأسلوب السهل الممتنع؛ أي سهل سلس، لكنه عصي على التقليد.فهو يخفي أدواته الإبداعية في حديقة مشاعره وبين أكمات نبضه، فهو كما البستاني يهيئ التربة، ويخصبها، ويعتنى بها، فتمنحه كل ما هو بديع وجميل، فينثر بذور الدهشة في مخيلة القارئ الذي لا يكاد يتأمل نصوصه حتى يحصد الثمار اليانعة في جميع الأطياف والصور البيانية المرسومة بدقة متناهية، الأمر الذي يجعل حدائقه بالنسبة للمتلقي فريدة من نوعها كروائح الأزهار وألوانها.
 
ويطيب لي في ختام وقفتي المتواضعة هذه أن أشير إلى غزارة النتاج الفكري والأدبي المنشور لأديبنا الدكتور عادل جوده، فله عدد من الإصدارات المرئية، والسمعية، والمقروءة، أذكر منها إصداراته الورقية مرتبة بحسب تاريخ نشرها، وهي: «سجل الطالب»؛ الرياض: 1986م، والجزء الأول من سلسلة «ومضات وجد»؛ الرياض: 2009م، و»اتفقنا أم اختلفنا»؛ الرياض: 2016م، و»أخ يا فلسطين» ديوان شعر ـ الرياض: 2017م، والجزء الثاني من سلسلة «ومضات وجد» تحت عنوان «بحر دير البلح»؛ الرياض: 2018م، و»شاطئ المغيب»؛ ديوان شعر ـ الرياض: 2018م، والجزء الثالث من سلسلة «ومضات وجد» تحت عنوان «رنة جوالك» ـ الرياض: 2019م.