Friday 19th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    17-Aug-2019

الصفح ما بين جاك دريدا والضيافة عند العرب

 القدس العربي-علي البزاز

لا يعني الصفحُ التسامحِ والعفوِ والمغفرة، وإن ارتبط بهذه المفاهيم ظاهريّاً وتاريخيّاً، فلكلّ مفهومٍ شروطٌ وآلياتُ اشتغالٍ خاصّة به، ذلك أنّ مفهوم الصفحِ شائكٌ ومستحيل، وفيه تُواجه الذات حمولة دينيّة وثقافية من وزنِ العدالة، المساواة، الثأر والقصاص، مقابل « الصفح وهو، المستحيلُ جَبَر ضرَره، لهذا، ينبغي تفريغ الحمولة تلك من أساسيّاته النمطيّة وبنياته المتعارف عليها (في حال ربطها بالصفح تجاوزاً)، التي لم تعط تقدّماً واضحاً في بحث الصفح وشروط منحه، بسبب الالتباس الكبير الطاغي عليه من جهة، وضخامة المسألة التي يعالجها من جهة ثانيّة؛ الجريمة، الثأر، العقاب، والقوانين والأعظم هو أنّ الصفح، يضع المرء أمام اختبارِ تاريخه الشخصيّ والثقافي كلّه، وكذلك امتحان الدين والتربيّة.
هكذا، يبدو الصفحُ مُعقّداً جداً، وكبنيّة، يبدو المفهوم عصيّاً على التفسير والتنفيذ، ولعلّه من الاختبارات الإنسانية الكبرى، ومن التحديّات الثقافية العظيمة. ينبغي تجاوز مفهوم التسامح، إذ هو غير الصفحِ تماماً، بل إنّ التسامح والعفو، هما اللذان يجعلان الصفح ملتبساً ومُعقّداً، جرّاء الخلط الكبير بينهما. يضعنا الصفحُ، أمام مسألة بديهيّة، وهي: إمّا الصفح كمفهوم وممارسة إنسانيّة مانحة من دون شروط، يصفحُ عنّا نحن البشر، وذلك لاستحالة تنفيذه، إذ يحتاج قدرة كليّة واعدة داخلية وخارجية، قدرة طوباوية أحياناً، وأمّا نحن، نقع في مركز العجز، الذي لا يسمح لنا بممارسة الصفح، فينبغي عدم مسامحة أنفسنا إذن، ما دمنا لا نقدر عليه (ليس المقصود هنا وضع المرء في إدانة مستمرّة، بل في تحسين استقباله للآخر)، ونبقى هكذا على الأقلّ في سعيّ دائمٍ إلى الصفح، في الحالتين، تكمن الاستحالة، وهي أساسُ وجوب الصفح، الذي هو مأزق الإنسان سرمدياً.
إنّ اختبار الصفح لهو أعظم من تحدّي العدالة والمساواة والقوانين، وإن اشترك معهم في روابط عدّة، ولكي نتعّرف نوعاً ما على الصفح، ينبغي تفكيك كتلة المفاهيم التي تؤدّي إليه، أو تشتغل معه. ثمّة مواجهة خاسرة تتمثّل في مناقشة المفاهيم وكأنّها مُجرّدة، تشتغل بمعزل عن المفاهيم الأخرى وثيقة الصلة بها، أو بعيداً عن بيئتها. وعليه، تنطلق ممارسة الصفح، من مفهوم الضيافة أوّلاً، شديد الارتباط بالغريب، وما يتعلّق به من الجود والتضحية.
 
يكون وجوب تخصيص امتياز الصفح للضحيّة ذاتها، يجب أن لا تنبثق مسألةُ الصفح، كما هي إلّا في وضعية رأس لرأس، أو وجه لوجه، بين الضحيّة والمُذنب، وليس أبداً من قِبَل طرفٍ ثالث، لفائدة طرفٍ ثالث.
 
يُحدّد جاك دريدا في كتابه «الصّفح»، ما لا يقبلُ الصفح وما لا يقبلُ التقادم، (ترجمة مصطفى العارف وعبد الرحيم نور الدين)، شروط الصفح:
«يكون وجوب تخصيص امتياز الصفح للضحيّة ذاتها، يجب أن لا تنبثق مسألةُ الصفح، كما هي إلّا في وضعية رأس لرأس، أو وجه لوجه، بين الضحيّة والمُذنب، وليس أبداً من قِبَل طرفٍ ثالث، لفائدة طرفٍ ثالث. هل هذا ممكن؟ هل وضعيّة (رأس لرأس. وجه لوجه) المذكورة مُمكنة؟ مُجنّباً الصفح استعمالات السياسة له وأغراضها منه، بما يُسمّى «المصالحة»، وهي سياسية بامتياز وتختلفُ عن الصفح. إنّ وجود الصافح حيّ وهو المانحُ للصفحِ، لهو ضروريّ ومن النوافل، كما في إدارة النبيّ محمد، لمآل الصراع مع قريش عند فتح مكّة بقوله: «اذهبوا، فأنتم الطلقاء»، يختلف الصفحُ عن التسامح، الذي يُبقي الطرفين على خصومتهما، ولكن بتسوية تضمن لهما مكانتهما؛ القويّ كما الضعيف، ولهذا فإنّ السياسة تستعملُ التسامح كدعاية لها ولا تقتربُ من الصفح، لأنّها لا تقدرُ على تنفيذه. «التسامح، فضيلة مسيحيّة أوّلاً وقبل كل شيء، أو قل فضيلة كاثوليكية»، حسب دريدا.
الضيافة المشروطة، لا تُعتبر ضيافة حقيقيّة، إذ يتضمّن التسامح الضيافة المُقيّدة، وكل مشروط هو أناني وناقص في العطاء. وعليه، فإنّ الصفح هو غير التسامح. يمكنُ التعبير عن التسامح والعفو والمغفرة، بحالة الجسر؛ إذ يسمح بالعبور إلى الجهتين، لكن تظلّ الجهتان كما هما على حالهما من دون تغيير، من دون اندماج بعضهما ببعض. لا يحمل كلّ من التسامح والعفو والمغفرة، التغيير الجذري النفسي والوجودي، نعم، يحمل بعضاً منه، وهذا البعض يعني الاشتراط والحدود، بينما الصفح هو نتاج تغييرٍ كلّي من دون محدّدات، كالهبة، كوجود الأم في الطبيعة، وإلّا فكيف تصفح الضحيّة عن التخريب والظلم والانتهاك؟ إنّ وجود صفحة لاحقة تلي الصفح مباشرة، مهمّ وشَرطيّ للغاية، بل تشير الصفحة هذه تحديداً إلى الصفح ذاته، فتجعله واقعاً وممكناً (الصّفح من كلمة الصفحة، وهي حالة جديدة)؛ إذ لم يكتفِ النبيّ محمّد بحديث الطلقاء، وإنّما أعلن قيام مشروع الصفح بقوله «كلّ من دخَل بيت أبي سفيان، فهو آمن». صفحة جديدة، طوت الصراع والخلافات، وابتدأت بتكريم خصومه. صحيح جاء النداء ذاك، لإشاعة حالة سياسيّة وإنسانيّة، لكن المهم فيه، هي تلك الحالة الجديدة، أي الصفحة الجديدة.
ثمّة من يقول، إنّ حديث السيّد المسيح يشير (سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: عَيْنٌ بِعَيْنٍ وَسِنٌّ بِسِنٍّ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تُقَاوِمُوا الشَّرَّ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أَيْضاً. وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَاصِمَكَ وَيَأْخُذَ ثَوْبَكَ فَاتْرُكْ لَهُ الرِّدَاءَ أَيْضاً. وَمَنْ سَخَّرَكَ مِيلاً وَاحِداً فَاذْهَبْ مَعَهُ اثْنَيْنِ).
إلى الصفح، عن طريق تحمّل الضحية استمرارية الضرب على الخدّ الآخر، تلبية للأمر بعدم ارتكاب الشر، أيّ إلغاء الشر من جانب الضحية، وجعله مقتصرِاً على الجاني فقط، والسماح له بالاستمرار، يعني إعطاءه فرصة ثانية للضرب (صفحة جديدة). وهنا قد استوفى الصفح بعض شروطه، لكن يجد المتأمّل في حديث السيّد المسيح اقتصار الشرّ على جانبٍ واحد، وهو من صفات الصفح. لا تجوز تبرئة الضحيّة لأنّها بريئة أصلاً؛ وعلى هذا النحو، كانت الدعوة للذات المسيحية، تشتمل على الضيافة والتسامح والغريب، كما في إنجيل لوقا «نصنعُ للآخر، ما نُحبّ أن يصنعه بنا». ليس غريباً، أنّ جاك دريدا، وهو اليهوديّ، المولود في الجزائر، وسط ثقافة إسلامية، والمفكّر الفرنسي الذي خبِر تاريخ الفلسفة، وتاريخ المسيحية، قد عَبّر عن الصفح من خلال مفاهيم أساسية، وهي: الغريب، الضيافة والجود. وهنا يقول إدغار موران: «ما يقوم به دريدا، في اعتقادي، عزلُ الصفح عن سياقاته، أمّا أنا فأحاول اعتماد منظورٍ يقدّم مشكلة الصفح في سياقاتها السيكولوجية والثقافية التاريخية، وبالطبع في سياق هذا القرن المطبوع بتنظيم مجازر جماعية». والصّفح كتحد أقصى، يحمل في بنيته التحدّي المضاد، وهو تحدٍّ، لا يتمّ، إلّا في سياق توسيع مفاهيم العفو والمغفرة والتسامح، لتشمل معنى الصفح. وهنا مأزق ثانٍ، وهو إنّ تسهيل الصفح مشروطٌ بتوسيع قاعدته، وكما أسلفنا، الصفح لا يتّفق مع الشروط أساساً، وشيء آخر، ما يتعلّق بالتحدي ذاته بنيوياً، فالتحدّي المشروط، ليس تحدّياً. يشير التحدي، إلى التحدي الحرّ، وإلى مجاوزة للشروط. يمكن تسهيل مفهوم الصفح المعقّد أصلاً، عبر مفهوم الجود والكرم، أي الحبّ الفائض والجود الفائض، أي «الهِبة»، ولكن ليس الهِبة التلقائية والعفوية، هنا لا يتحقّق الصفح، فمن شروطه، معرفة الضحيّة تفاصيل الجريمة وعدم نسيانها، إنّما الهِبة العارِفة بمتطلّبات الجود، بمقياس جودها الذاتي، بأنّها تمنح هي، وهي فحسب.
هنا تفعيل عدم النسيان واجب، (كثيراً ما يُربط الصفح بالنسيان، النسيان فعّال بتكرار الجريمة). الصفحُ شخصيّ بحت (صفح مانديلا مثلاً)، ولا يمكن أن يكون جماعيّاً، لئلّا يكون سياسة أحزاب أو دول، وهي غير مخوّلة بالصفح، فلا حقّ للكنيسة أو الجامع، أو الدولة بذلك. تقرّر الضحيّة وحدها الصفح، وهو حقّ لها حصريّاً، كما يجب استبعاد عنصر التعويض كلّياً، الضحية لا تعوّض، ومن المستحيل تعويضها، «وثمّة ضرر لا يتقادم، لا يُقاس الصفح فقط، إلّا إلى ما لا يقبل الصفح، وبالتالي، إلى قياسٍ دون مقياس، لا إنسانيّة ما لا يقبل التكفير، إلى وحشية الشرّ الجذري».
 
أن نصفح، يعني أن نمتلكَ قدرةَ المُتعالي المجروح على التجاوز، وقدرة المهدور وجوده، على إثبات، أنّ إنسانيته مؤمّنة دائماً في الآخر، بل ومُختَبرة به.
 
اللافت، أنّ الفكر الغربي، على الرغم من مناقشته للضيافة والغريب، لكنّه بقي واقعاً تحت مطرقة التسامح تارة، والمحدوديّة طوراً، ولم يذهب إلى اعتبار الضيافة مفهوماً لانهائيّاً، يتّسع لمفاهيم كثيرة، مثل الغريب، العدو والكرم. وما سياسات الاندماج في الغرب، سوى تذويب للغريب، وليس ضيافته والاستفادة من وِفادته، وعليه، فإنّ إكراه المرء على تبنّي عكسه، سيؤدّي إلى نتائج عكسيّة غير محسوبة (فشل سياسات الاندماج الأوروبية في معظمها، يشي بخللٍ فكري إلى حد ّما)؛ إذ وضع السياسيون خُطط الاندماج تلك، ولكن بناء على الفكر، أو شرّعها مفكّرون أصلاً، بينما يشذّ المفكّر الفرنسي جاك دريدا عن هذه القاعدة، ناقلاً الضيافة إلى حالةٍ إبداعية أوّلاً، بقوله عن الترجمة مثلاً: «ضيافة أو حصّة الغريب»، أو عن الضيافة ذاتها «إمّا أن تكون لانهائيّة أو لا تكون»، مُشترطاً عدم وضع اشتراطات ومحدّدات لها.
ضيافة لانهائية، كاستقبال الأرض لنا نحن البشر، وفي الضيافة المُطلقة، يكمن فعلُ الاستجارة العربيّ مسبوقاً بالضيافة، فالعربيّ يُجير قاتل ولده، إن هو طلب ذلك. كذلك لا يسأل العربيّ ضيفه عن حاجته، إلّا بعد مرور ثلاثة أيام، يشعر فيها بالطمأنينة من كلّ خوفٍ أو فزع، في المقابل، يبدأ فعل الضيافة بالاشتغال المُتبادل بين الضيف والمضيّف، حالما يذوق الضيف (الملح) الذي يشترط الصدق والأمانة والوفاء بين الطرفين. ولاحقاً، تحوّل الملح رمزياً في ذهن العربيّ من الطعام إلى الوفاء والضيافة والإخلاص، وقد تناول الشعر العربي في مواضع عدّة الضيافة، فليس غريباً على ثقافة كهذه، أن تجعل الضيافة رمزاً للأمّ، وعدم الضيافة رمزاً لإهانتها تلقائياً. وهكذا، يمكن اعتبار الأمّ هي الصفح تأويلياً، في مقارنة الأبّ – العقوبة. لقد اقترن الغريبُ بالإنسان منذ خلقه، ما أدّى إلى نفيه لأنّه مختلف روحاً وشكلاً عن الملائكة، ثم عاش غريباً كوجودٍ على الأرض، كما اقترن التميّز بالغريب، وكأنّ الغريب متميّزٌ دائماً، والمتميّز هو غريبٌ وعظيمٌ ومؤثّرٌ في حركةِ التاريخ، فجلّ الأنبياء والمصلحين عانى الاغتراب والنفي في زمانهم: طُرد إبراهيم من أور الكلدانية، كما تاه النبيّ موسى مع قومه في الصحراء، ولُقّب السيّد المسيح باليسوع، لترحّله من مكانٍ إلى آخر، وأخيراً، هجرة النبيّ محمّد من مدينته مكّة إلى المدينة. وهكذا، ربّما يرتبط الصفح على الرغم من إنسانيته بالغريب، إلى كسر ما ترسّب في الذات البشرية من الحقد والانتقام، ومن هنا لا نستطيع أو نستغرب قدرة بعض البشر على الصفح والتجاوز، كل فعلٍ جبار من بينه الصفح، يسبقه تغريب حقيقي للذات عمّا تعوّدت عليه، فتصبح الذات غريبة عن السائد، وفعلها يُنظر إليه بغرابة كما في حالة الصفح.
تقود الغُربة إذن، إلى العظمةِ والقوّة، وفي المقابل، فإنّ الأفكار المترحّلة بين الأجناس الأدبية، والسُلالات المترحّلة بين الدماء والجينات المختلفة، هي أقوى وأكثر صموداً من غيرها، بفعل مفهوم الغُربة – الترحّل، وقد حسمت جوليا كرستيفا مفهوم الغريب نهائياً «الغريب، هو الذي يسكننا على نحوٍ غريب». مَن يصفح هو غريب بنظرنا، وفعله جبار ينتمي إلى الغرابة، فليس الكلّ قادر على تحمّل الغربة؛ غربة الأفعال الإنسانية العظيمة، وغربة النصوص. أن نصفح، يعني أن نمتلكَ قدرةَ المُتعالي المجروح على التجاوز، وقدرة المهدور وجوده، على إثبات، أنّ إنسانيته مؤمّنة دائماً في الآخر، بل ومُختَبرة به..