Thursday 25th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    18-May-2020

الصبيُّ الذي سخّر الريح

 القدس العربي-بروين حبيب

في الثالثة عشرة من عمره أفتتن وليام كامكوامبا، بكتاب بعنوان «استخدام الطاقة»، وبفكرة توليد الطاقة، من خلال استغلال الرياح لتوليد الكهرباء، وتشغيل مضخة مياه لري الأراضي، التي ضربها القحط بسبب شح في الأمطار. لكن كما في حياة كل العظماء، ما إن باح بفكرته حتّى هبّت الدنيا كلها لتقف ضده. طُرد من المدرسة، ضربه والده ووجه له أعنف الإهانات، مات كلبه من الجوع ولم يستطع إنقاذه، ومع هذا أصرّ أيام ضربت المجاعة مالاوي، وهلاك مزروعات والده في ويمبي، أن يبحث عن دينامو، ويعمل على تحقيق فكرته.
بحث في أماكن الخردة عن أسلاك وقطع لا تعني شيئا لكل من حوله، واجتهد في إقناعهم أن بناء طاحونة هواء سيجعل أمر سحب المياه الباطنية أمرا ممكنا.
ساعده أصدقاؤه في بناء الطاحونة، من أخشاب شجر اللثة الزرقاء، وما جمعوه من بقايا الدراجات الهوائية وأشياء أخرى. وحين اشتغلت تلك الطاحونة العجيبة ودار محرّك المضخة وتدفق الماء من أعماق البئر، صدّق الأب – الذي ظل متيقنا أن ابنه على خطأ ـ حجم الظلم الذي ألحقه بابنه وفكرته العبقرية.
عمر وليام اليوم اثنان وثلاثون عاما، وكان سبب انطلاقه في عالم الابتكارات والاختراعات والشهرة كتابا. أمّا الفيلم الذي يحكي قصته فيحمل عنوان «الصبي الذي سخّر الريح» ويروي تفاصيل كثيرة عن المرحلة الصعبة التي سبقت مخاض مشروعه، والتي تمثل بالضبط الجزء الذي أبهر المخرج والممثل شيواتال إيجيوفور الوفي في أعماله، لجذوره الافريقية، فكان إنجازه مذهلا، فالمخترع الشاب الذي التحق بكلية دارتموث، قد تختفي قصة انطلاقه المُحفِّزة، أمام سيل القصص التي تملأ فضاءات التواصل الاجتماعي، فوثّق لها بفيلم مؤثر جدا، سندرك من خلاله معاناة الشعوب المتخلفة بسبب تمسكهم بالسلطة الأبوية الجائرة، وغياب الحرية، وافتقارهم لسلطة المال.
بدون الحرية، لا يمكن للعقل أن يبتكر أفكارا جديدة، وبدون المال لا يمكن لتلك الأفكار أن تتحقق. ثمة ملاك رحمة حلّق فوق مالاوي، وأنقذ وليام وأفكاره وعائلته وقريته وبلده من كارثة طبيعية، كانت ستتحول لكارثة إنسانية مثل، كل الكوارث التي اضطر فيها الإنسان إلى أن يتحوّل إلى وحش، وينقضّ على أخيه الإنسان من أجل قطعة خبز. هذه الحادثة لم تحدث منذ زمن بعيد، كما قد يعتقد من يجهل قصة هذا الشاب الطموح، فهي حدثت في سنة الألفين، حين كنا نحن نستعمل بطاقاتنا الإئتمانية لشراء أغراضنا، ونطلب الطعام إلى بيوتنا عن طريق «الدليفيري» وندفع مبالغ طائلة لحضور حفلة يحييها فنان عالمي، ونسافر إلى بلدان تشبه الجنة لقضاء عطلنا الصيفية، غير متوقعين تماما أن هناك شعوبا لا تزال تقبع تحت نير عبوديتها الذاتية وتعيش فقرا مدقعا، لا يمكن لعقل أن يتخيله.
حكاية الفيلم ستعيدني إلى زمن ابتكار طواحين الهواء، إلى عام 1887 حين ابتكر البروفيسور جيمس بليث من كلية أندرسون في اسكتلندا، أول طاحونة هواء ثبتها في حديقة بيته في منطقة ماريكيرك، لإضاءة بيته، وكان أول بيت يضاء في التاريخ بطاحونة هواء، وكانت قصته غاية في الطرافة، حين عرض توزيع الفائض عنده من الكهرباء لإضاءة الشارع فرفض السكان ذلك لاعتقادهم أن الكهرباء من عمل الشيطان! فكرة الخرافة وارتباطها بأي اختراع جديد قيّدت تطور البشرية، وجعلت شعوبا بأكملها تستسلم لأقدار مأساوية بسبب سيطرة السلطة الأبوية عليها، وربط أي ابتكار جديد بمعطىً تقيميٍّ غريب يضعه في مواجهة رغبة الرب. لكن لنعد لزمن جيمس بليث، ألم تكن طواحين الهواء موجودة أمامه في مشهده الأوروبي منذ القرون الوسطى، كونها استخدمت كجزء من العتاد الزراعي لطحن الحبوب؟ إن معجزة طفل مالاوي تكمن هنا، إذ لا شيء ملموس أمامه كان بالإمكان أن يدعم فكرته «النظرية» التي استقاها من كتب المدرسة، لذا كانت مواجهته أصعب من مواجهة البروفيسور لمجتمعه القروي في القرن التاسع عشر.
لقد حضرت طواحين الهواء في الأدب الغربي بكثرة، ولعل أشهر طاحونة هي تلك التي رافقت دون كيخوتة دي لامنشا في مغامراته الوهمية، ومنها خرجت تلك المقولة التي تقول «فلان كمن يقاتل طواحين الهواء»، التي تنتقل عبر الأجيال منذ برزت في مشهد من مشاهد بطل ميغيل دي ثرفانتس (1547 – 1616 ) في سرد ملحمته الكوميدية الساخرة عن بطله دون كيخوتة.
 
هناك طواحين في كل مكان مجّدها الأدب، كونها ألهمت كُتّابَه، ويمكن لعشاقه أن يجدوا متعة فريدة في زيارتها، بدءا بطواحين لامنشا، إلى طواحين ميكونوس، لكن طاحونة وليام كامكوامبا، التي لا تزال واقفة في قريته ويمبي، هل تفتح شهية زيارتها؟
 
اليوم في مقاطعة «لامنشا» لا يزال بإمكان السيّاح رؤية عشرات المطاحن البيضاء الجميلة، وهي مصفوفة في مشهد مهيب على إحدى التلال، حيث وقف ثرفانتس مدهوشا بإيحاءاتها، وحتما استعادها حين انكب على كتابة ملحمته في محنته، إذ لا يمكن للحنين للحرية سوى أن يقوده إلى منظرها، وهي تراقص الريح وتعزف أغنية فريدة من نوعها بامكانها في الأوقات الأليمة أن تكون دواء للروح. حضرت طواحين الهواء في الشعر الأوروبي على مرّ السنين، لشعراء بعضهم نعرفه، وبعضهم لم يشتهر كثيرا، لكنّها بمختصر القول كانــت «مُلهِمة» للشعراء والكتاب، وتجاوزت مهمتها التي ابتكرها المزارعون من أجلها. من بين أولئك الشعراء الإنكليزي لورانس دوريل (1912 ـ 1990) صاحب رواية «أمير الظلام»، والذي اعتبِر «خبيرا دقيقا في الجزر اليونانية» وقد تغني ووصف طواحين ميكونوس اليونانية، بشكل لا مثيل له، على الرغم من أنه عاش في أصقاع الدنيا كلها، وما رآه بعينيه وقلبه لم يستطع الأدب استيعابه.
هناك طواحين في كل مكان مجّدها الأدب، كونها ألهمت كُتّابَه، ويمكن لعشاقه أن يجدوا متعة فريدة في زيارتها، بدءا بطواحين لامنشا، إلى طواحين ميكونوس، لكن طاحونة وليام كامكوامبا، التي لا تزال واقفة في قريته ويمبي، هل تفتح شهية زيارتها؟ بالطبع قد يكون الجواب «لا» الأقرب للواقع، فالطاحونة بدائية وخالية من جماليات طواحين القارة الأوروبية، بل إن كمية البؤس في منظرها يجعلنا نتساءل هل فعلا غيرت وجه مالاوي وأنقذت ملايين البشر من الجوع؟ فمن يتأمل الصورة ويقارنها بطواحين ميكونوس مثلا، سيفضل ميكونوس بكل سحرها وجمالها، لكن أصحاب الفكر الإيجابي لم يفكروا بهذه الطريقة، فقد أصدر الصبي ـ الذي لم يعد صبيا ـ كتابا سنة 2013 روى فيه قصته، ونال جائزة مهمة، وقد فرضته جامعة فلوريدا على طلابها في برنامجهم الدراسي، ثم تلتها جامعة متشيغان وجامعات أخرى. استضافه غريك كيلبورن في برنامجه «ذي دايلي شو» وقدمه على أنه «ماك غيفر» مواطنه، صُنِّف من طرف مجلة «التّايم» واحدا من ثلاثين شخصية أقل من الثلاثين من عمرها غيرت العالم»، وقد نال تكريمات وجوائز مهمة، ويحاضر باستمرار في جامعات عالمية.
أما الفيلم الذي اقترحه بشدة خاصة في هذا الظرف الحرج، فقد نال في مهرجان صاندنس السينمائي، الذي يقام كل سنة في مدينة أوتاه في الولايات المتحدة جائزة مؤسسة ألفرد .ب. سلون. أنجزت حول وليام كامكوامبا تحقيقات وبرامج تلفزيونية، يصعب استحضارها جميعا في هذا المقال. لكن السؤال الذي خطر ببالي الآن، هو كم من وليام في مجتمعاتنا؟ كم من تلميذ نجيب حرم من المدرسة بسبب فقر أهله؟ كم من فكرة انطفأت بسبب التفكير القمعي الأبوي المفروض على أبنائنا؟ كم من عبقري ولد ومات في أرضه كمدا؟ وكم من عبقري آخر محظوظ غامر من أجل إنقاذ أفكاره وهو اليوم ينقذ شعوبا أخرى بأفكاره؟ خطر ببالي هذا الخاطر أيضا، وأنا أتابع عددا كبيرا من الأطباء العرب والأفارقة وهم يطلون عبر شاشاتنا العربية في هذه الأيام العصيبة، لتزويدنا بخلاصات تجاربهم، ورؤاهم للخروج من الأزمة، في ظل رعاية كاملة من مؤسسات غربية. فيما كل بلدانهم الأصلية تتخبط في مشاكل عديدة من قلة الأجهزة إلى قلة الأطباء ومساعديهم والطاقات البشرية المختصة في المجال الطبي.
كتاب وليام كامكوامبا ليس مجرّد كتاب سيرة ذاتية، إنه رسالة من أقوى الرسائل التي يمكن توجيهها لأجيالنا القادمة، وهي أننا لا يمكن أن نغير واقعنا بدون تحرير الأفكار المحجوزة في أدمغتنا. كل شيء يبدأ بالحرية.
 
٭ شاعرة وإعلامية من البحرين