Friday 26th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    06-Nov-2017

للحجارة لغة أبلغ من لغات البشر - م. حاتم يونس

 الراي - في نهاية عهد الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما جرى تقارب بين الولايات المتحدة وكوبا، بعد عقود من التوتر شهدت كثيراً من الأزمات بين البلدين. وأدى هذا التقارب إلى نسبة من القلق لدى بعض محبي المعمار سَبَبُه الخوف على الجمال المعماري والعمراني لكوبا، وبالأخص عاصمتها هافانا. فلقد كان من المتوقع، بطبيعة الحال، أن تكون للرئيس الأمريكي في ذلك الوقت أهداف اقتصادية وتجارية علاوة على أهدافه الاستراتيجية من هذا التقارب. وكان من المنطقي أن الاندفاع التجاري المتوقع كنتيجة طبيعية لهذا الوضع الجيوسياسي الجديد سيؤدي إلى ازدياد السُيَّاح وحمى البناء والتعمير على أرض كوبا. وكان جمال كوبا قد حفظته ظروف الزمان ورغبة قادة الثورة الكوبية في تطوير الوطن على نحو يَجُّبُ منطق رأس المال الذي لا يعرف سوى جني الأرباح وتعظيم الثروات المادية هدفاً له. ومن ثم بقيت كوبا، وبالتحديد هافانا، محافظة على عبقرية مكانها.

 
عبقرية المكان هي روحه وما تحمل مما يجعل منه مكاناً فريداً مختلفاً عن غيره. وهي تتشكل من عناصر أهمها البناء العمراني والشكل المعماري الذي يعكس الذوق الفني والطبيعة الإنسانية لسُكانه، كما أنها تُؤَثِّرُ فيهم مثلما تتأثر بطبائعهم. ولدينا في هافانا على ذلك مثال بألوان أبنيتها وبالشكل الخاص لشوارعها. وإن تَغَيَّر فيها ذلك كله تَغَيّرَت روح وطبائع سكانها تدريجياً. وفي هذا دليل على تأثير النظام الاقتصادي على الوطن تأثيراً عميقاً مُتَشَعِّباً.
 
وكان التاريخ وما يعني للهوية الوطنية من أسباب الخوف على عبقرية المكان في هافانا. فهذه الأبنية وهذه الشوارع والميادين كان من الممكن أن تُحَوِّلَها طموحات أصدقاء الرئيس الأمريكي السابق من رواد الأعمال ومُدراء كبرى الشركات إلى شيء لا علاقة له بروح كوبا وطناً وبلداً، هادمة بذلك تاريخها الفريد قطعة حجارة تلو الأخرى ورصيفاً بعد رصيفٍ.
 
لحسن حظ كوبا، تَغَيَّرَت سياسة الولايات المتحدة تجاهها وعادت، بعد انتخاب الرئيس الجديد دونالد ترامب، إلى ما كانت عليه سابقاً.
ولكن ذلك لا يعني أبداً أن التطوير العمراني مرفوض، بل يعني ضرورة الرَوِيَّةِ والتخطيط بعيد المدى للجمع بين الحفاظ على عبقرية المكان، ومن ثم دعم الهوية الوطنية، من ناحية، وتطوير الأوطان بما تقتضيه ظروفها، من ناحية أخرى.
 
استطاعت بلدان كثيرة أن تفعل ذلك. فلا يشعر من يتنزه في وسط روما بانقطاع روح إيطاليا وتاريخها عنها لحظة. ولم تَغِبْ ذكرى نابليون عن باريس عبر ما زاد على قرنين من الزمان. وشارك ذلك في الحفاظ على روح فرنسا. ولكن حتى فرنسا وإيطاليا لا تأمنان شر أخطارٍ اقتصادية قد تذهب بمجهودات حكام سابقين لهما بذلوا الكثير حفاظاً على روحهما.
 
يُشَكِّلُ رأس المال على عبقرية المكان خطراً لا يُستهان به، إذ هو يعتمد على منطقٍ أساسه رغبته في تحقيق أعلى ما يمكن من الأرباح، مُفضِّلاً ضغط النفقات وخفض التكلفة على الاهتمام بالجماليات وبعنصر البقاء، علاوة على أنانيته الجامحة التي أدت إلى هدم كثير من المعالم الأثرية حول العالم لتقوم بدلاً منها بنايات إسمنتية أو زجاجية شاهقة تتشابه فيما بينها على اختلاف ثقافات أصحابها. لذا فبلدان صنعت تاريخ البشرية بفنها وبفكرها مثل مصر وإيطاليا وفرنسا واليونان، التي تعاني كلها ضغوط رأس المال عليها في خِضَّم جهودها في سبيل الخروج من أزماتها الاقتصادية مختلفة الأسباب فيما بينها، تواجه اليوم خيارات مصيرية للحفاظ على هوياتها.
 
ولقد فقدت الإسكندرية بعضاً من معالمها حتى تكاد اليوم تصير ظلاً لما كانت عليه في الأمس؛ وهُدِمَت في فرنسا كاتدرائية كان يُحسب عمرها بالقرون وليس بالعقود، وتتعرض إيطاليا إلى نقص في مواردها للحفاظ على تراثها، ويهدد الخطر ذاته تراث الإغريق.
 
المسألة تتعلق ليس بتراث الإنسانية فحسب، بل هي تتعلق أيضاً بثقافات صنعتها الحجارة وعبقرية المكان. ومن ثم فليس أمام هذه الدول سوى فرض سيطرتها على التخطيط العمراني فيها وإدراج الحجارة ضمن منظومة الأمن الوطني، فالحجارة تتكلم بمفردات أبلغ من مفردات من يستخدمونها.