Thursday 28th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    20-May-2020

الكورونا بين اليوتوبيا والديستوبيا

 الدستور-د. غسان إسماعيل عبد الخالق

 
شَحَذ الخيال العلمي، عالم الأدب والسينما، بما لا يُعدّ ولا يُحصى من المقاربات التي تفاوتت جودتها وطروحاتها من حيث الشكل والمضمون، وخاصة على صعيد التنبؤ بقرب نهاية العالم لأسباب كارثية، مثل الحروب النووية والمجاعات والأوبئة والزلازل والبراكين.
 
ومن الملاحظ أن مقاربة الكارثة – بغض النظر عن مسبّباتها وأعراضها ومآلاتها- قد استدعت على الدوام، في عالم الأدب والسينما، شكلين من أشكال الخلاص الفردي والجمعي؛ اليوتوبيا أو المستعمرة البشرية الناجية بما تيسّر من البشر الذين ما زالوا يؤمنون بقيم الحق والخير والجمال... ولا يدّخرون وسعًا لإدارة شؤون حياتهم بما تبقّى لديهم من قيم العدل والحرية المساواة، والديستوبيا أو المستعمرة البشرية الناجية بما تيسّر من البشر الذين يحتكمون لشرعة الغاب... ولا يدّخرون وسعًا لإدارة شؤون حياتهم عبر تبجيل القوة والقسوة ومهارات صراع البقاء!
 
ورغم التباين الشديد بين (المدينة الفاضلة) و(المدينة الآثمة)، إلا أنهما لا تخلوان من بعض وجوه التشابه؛ إذ إن كلا من المدينتين تعيشان وهم الاكتفاء والاستغناء عن كل ما يقع خارج أسوارهما إلى درجة تأثيم كل من تحدّثه نفسه بالتفكير خارج الصندوق، صندوق النعيم أو صندوق الجحيم، لأن مجرّد الانسياق مع هذه الهرطقة يعني الاستغناء عن الأمن الجمعي والأمان الفردي اللذين لا يمكن تحقيقهما إلا من خلال الرضى التام بالعيش داخل أسوار الفكرة العتيدة المبرّأة من الشبهات والشكوك. كما أن كلاً من المدينتين ترسم أقدارهما جموع الدّهماء والغوغاء التي تزن الأمور دائمًا بموازين العواطف والانفعالات اللاعقلانية، والتي تقتات على مشاعر الخوف وغرائر التحفّز والشك. والأهم من كل ما تقدم أن كلا من المدينتين تتربّع على سدّة تقدير المصير فيهما، ثلّة من الحكماء الذين يجيدون استثمار دوافع الخير الموهوم، أو ثلّة من المقاتلين الذين يجيدون استثمار دوافع العدوان الغاشم.
 
لقد وضعت جائحة الكورونا، كلا من المدينتين المقترحتين على المحكّ، لتثبت أن كلا منهما غير قابل للتحقيق تحققًا كاملاً؛ فلا المدينة الفاضلة ممكنة ولا المدينة الآثمة ممكنة، لأن الواقع المعاش هو مزيج من الاثنتين، ولأن هذا المزيج غير ثابت وقابل للتأرجح في كل يوم بل في كل ساعة؛ فتارة تعلو منظومة الأمن الجمعي وقيم العدل والحرية والمساواة... وتارة تعلو منظومة مناعة القطيع وقيم الانتخاب الطبيعي وقانون البقاء للأقوى والأغنى!
 
لكن المفارقة الأجدر بالتسجيل والتوثيق على هذا الصعيد، تتمثل في أن وجوه الشبه التي جئنا على ذكرها آنفًا، ما زالت هي الثوابت الناظمة لهذا الواقع الكورنيالي؛ فقد أفرزت الجائحة جملة من الأفكار أو الأوهام المتقابلة التي باتت تتمتع بقدسية غير قابلة للمساءلة، كما أكّدت السلطة اللاّمتناهية للسلوك الجمعي المسوق بالخوف والذعر وغرائز صراع البقاء، وبطبيعة الحال فقد أظهرت قدرة نخبة عالمية على التحكم في مصائر الشعوب وابتكار المزيد من أدوات السيطرة وآليات الهيمنة على المجتمعات!