Friday 19th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    28-Jul-2017

الساعة الخامسة والعشرون: القيامة الجديدة لأوروبا - معاذ بني عامر

 

الغد- إنّ يداً إنسانية: يد الرحمة والمحبة والغفران، لم تلمس أصابع "قسطنطين جورجيو" فحسب، بل إن اليدّ ذاتها مسّت شغاف قلبه. فخرجت تحفته الأدبية (الساعة الخامسة والعشرون) مثل الفراشة البهية التي انبثقت من صندوق باندورا المليء بالشرور. فيوم أن ضجّت أوروبا بشرور الحرب العالمية الثانية، واندفعت الغرائز الوحشية من مكامنها، واستباحت الاجتماع الإنساني وأحالته إلى خراب كبير؛ خرج "يوهان موريتز" الطيب، لكي يُؤسّس لأوروبا جديدة.
عندما استبصر الشاعر الألماني "غوته" خراب الروح الأوروبية في (فاوست)، لناحية هدر قيمتها الإنسانية وابتياعها من قبل الشيطان، بصفته أيقونةً للخراب والشرّ في هذا العالَم، وتنبّأ بالثمن الباهظ الذي ستدفعه هذه الروح نتيجة لانحلالها الكبير وتفسخّها وانبعاث رائحتها الكريهة، بعد أن تتعفّن من الداخل. كانت أوروبا على موعد مع هذه النبوءة المُخيفة، وذلك بقيام حربين كبيرتين، أحالتا أوروبا إلى أرض محروقة. فذاك العصر التطوّري ( = عصر الأنوار) الذي كافح فيه الإنسان طويلاً، للانفصال عن غرائزيته التدميرية، ها هو يتعرّض لأعنف اختبار، عبر انشطارات في روحه التراحمية والعودة القهقرى إلى زمن يسود فيه الدم على حساب العقل.
وقد كان لمسرحية (فاوست) لـ"غوته" أن تنتظم كمقدمة ذهنية لنتيجةٍ واقعية، بانتظار انبثاق مقدمة ذهنية جديدة ونتيجة واقعية جديدة أيضاً. فـ فاوست الذي باع روحه للشيطان، سيعمل –بصفته عاكساً لروح الأمة الجمعية- على تطبيق هذه الصفقة على أرض الواقع، وستتكالب أوروبا كاملة على القصعة الفاوستية لكي تنهل منها تلك الروح الشيطانية، وتعمل على إبادة نفسها بنفسها. فما قرَّ في ذهن "غوته" الفردي، ها هو يتمظهر تطبيقاً عملياً في أوروبا كاملة. إلى أن ظهرت مقدمة جديدة على يدّ "قسطنطين جورجيو" في رواية (الساعة الخامسة والعشرون)، موازية –لكنها مختلفة- لمقدمة غوته في فاوست. ولاحقاً ستظهر نتيجتها –رغم أن الرواية منعت لحظة صدورها في أوروبا كاملة- في حالة الوئام والانسجام بين الشعوب الأوروبية، وتجاوزهم لمرحلة الآلام الكبيرة، التي تجرّعوا فيها كأس السم كما لو كان كأساً من ماء قراح.   
فقد عمد "قسطنطين جورجيو" إلى الصعود والارتقاء بإنسان العصور الحديثة، عبر تمثّلات بطل روايته "يوهان موريتز"؛ ذلك الإنسان: 
1 - المكلوم بتشظيات إثنية نبذته على الدوام تحت شعار الحفاظ على رحمها من أية تلويثات خارجية. فساعة تُنزع عنه –كنوعٍ من الكيدية من قائد الشرطة في إحدى البلدات الرومانية- صفته المسيحية وتُلصق به صفة اليهودية، يُساق إلى الحرب مُرغماً وينال ويلاتها واحدة واحدة، كما لو كان ذبيحة تُقطّع على مهل ويزدرد لحمها الملوّث. وساعة يعود مسيحياً يُحارب من قبل يهودي اشتراكي، وهكذا في كل انتقالة له، بما يُؤشّر على ما آلت إليه الروح الأوروبية إبّان الحرب العالمية الثانية، وتعاملها اللاإنساني مع كل الذوات الإنسانية، في ارتكاسة وحشية لإنسان لم يعد يملك الحدّ الأدنى من مقوّمات الاجتماع البشري.  
2 - الموجوع إنسانياً فالكُلّ يرفضه ويرفض أن يتعامل معه كإنسان بما هو كذلك، فـ "يوهان موريتز" هو واحد مُجسّد للمجموع الأوروبي. فالكل يرفض الكل في أوروبا، والكلّ في طريقه إلى الانتحار ليس الإنساني فقط، بل والحضاري أيضاً. فالهوية –من جهة- التي امتاز بها الإنسان عن الحيوان، نفاها إلى العَدَم، وها هو يعيد الالتصاق بمشيمة الحيوانات الضارية والطيور الجارحة. ومنجزه الحضاري- من جهة ثانية- مُهدّد هو الآخر إلى الفناء والخراب، فالرصاص أنجز أيقونته الكبرى وأعاد أوروبا آلاف السنين إلى الوراء. ففي تلك الحرب ستتجلّى الروح التدميرية لكائنٍ كان قد أنجز الكثير من مشروعه العقلاني، عبر عصر الأنوار. لكنه لم ينجز مشروعه الأخلاقي، عبر تهذيب للنفس ومراعاتها لآلام الناس كما لو كانت آلامها، والاشتغال على تخفيفها أو الحدّ منها؛ لذا سقط ملايين الناس دون أن يرفّ لأحد جفن أو يصحو لأحد ضمير.
3 - الضائع تاريخياً فهويته التأسيسية كانت قد افتقدت، إذ لم يعد يعي أين موضعه التاريخي الأصح، وأين يكمن إرثه الماضوي. إذ اختلط الحابل بالنابل، وأصبح تائهاً في حقل ألغام ذهني، لا يفتأ ينفجر في وجهه كلما يمّم صوب فكرة ما. فالهويات التي ألصقت به مُهدّدةً من الهويات الأخرى؛ بما أحال فكرة الهوية من أساسها إلى فكرة عبثية لا معنى لها. 
وهذا ما سيعمل "قسطنطين جورجيو" على بسطه في روايته، مُجمّلاً تلك الوحشية المُفرطة بنثرٍ بديع، لكي يتجاوزها تباعاً. فقد كان قد حافظ على روح بطله من الابتذال المُهين الذي لحق بالروح الأوروبية الجمعية، وأعادها إلى حظيرة الحيوانات الضارية، تنهشُ بعضها بعضاً. وذلك بإخراج بطله من سياقات أوروبا المتوحشة، ودمجه في سياق أخلاقي رحماني. فـ "موريتز" ذلك الشخص العبيط/ الطيب، سيتعرّض لكلّ أنواع المهانات الجسدية والمعنوية، لكنه سيبقى مُحافظاً على مسلكياته الإنسانية، وسط المدّ العاتي لأوروبا الشيطانية ( = نبوءة غوته)، ويتعامل بطيبةٍ حتى مع جلاديه الذي نكلّوا به، وأحالوا حياته إلى جحيم متواصل، فأفقدوه كل شيء في الحياة. 
على المستوى النظري، كان عصر الأنوار قد أنجزَ أطروحته حول المسارات الجديدة للإنسان الحديث، وعلاقة بالمنظومة الوجودية كاملة، وانتقل بالإنسان نقلات نوعية على المستوى العلمي والمعرفي. ومع بدايات القرن العشرين كان الإنسان الأوروبي قد قفز قفزات في مختلف المجالات المعرفية، إلى حدّ كادت أن تصبح معه رؤية "غوته" في عِداد الأمنيات الحالمة لشاعر طموح. إلا أن شرارة صغيرة حدثت في العام 1914 أشعلت أوروبا كلها وأحالتها إلى رماد، وأعادتها إلى عصر الظلمات. ويوم أوشكت هذه الشرارة على الانطفاء، هبّت ريح شيطانية أخرى، وأشعلت الجذوة من جديد، فاستعرت نار الحرب العالمية الثانية، وأتت على كل شيء، ليس فقط ما تعلّق منها بالمنجزات المادية للحضارة الإنسانية، بل بالمنجز الأعظم: المنجز الأخلاقي، وأحالته إلى محرقة كبيرة. فلقد انحطّت قيمة الإنسان انحطاطاً كبيراً، ولم يعد ثمة معنى له، لذا ذُبح الناس بالملايين، وكأنهم محض جراثيم يتم إبادتها خالصاً عن خالص. ولم يعد ذاك المنجز الأخلاقي للإنسان هو الذي يفرض شرطه أثناء التعامل مع الناس، بل غدت أوروبا مسرحاً لحيوانات ضارية لا هم لها إلا افتراس بعضها البعض، والاقتيات على جثثها المتعفنة.
إلا أنَّ نوراً خافتاً سينبعث من وسط هذه الظلمة الكالحة، وينبئ بولادة جديدة. فالهولوكوست الذي ترمّدت فيه مُنجزات الإنسان الحديث، سينبعث من رماده طائر الفينيق؛ طائر الفينيق الأخلاقي هذه المرة. فـ "يوهان موريتز" (بطل الرواية) هو طائر الفينيق الذي انبعث من وسط الرماد الغرائزي، والدفقات الوحشية. 
إنه نبوءة "قسطنطين جورجيو" الأخلاقية، كما (فاوست) نبوءة "غوته" الشيطانية.
فـ (قسطنطين جورجيو) معادل موضوعي لـ (غوته)؛ كما (يوهان موريتز) معادل موضوعي هو الآخر لـ (فاوست). واحد تنبَّأ بخراب أوروبا، وثانٍ تنبَّأ بإعمار أوروبا. الأول استلهم الفكرة العقلانية وهو يتنبّأ بالخراب، والثاني استلهم الفكرة الأخلاقية وهو يتنبّأ بالإعمار. فقسطنطين جورجيو سيجعل من القارة الأوربية (مسرح الفظاعات الوحشية) صراطاً مستقيماً، يمشي عليه "يوهان موريتز" الهوينى، ليسقط في الجحيم المستعر، ليعاين هذه الفظاعات. ليس لغاية التطهّر على الطريقة الأرسطية، بل ليضرب مثلاً لأولئك الوحوش، أن بذرة الخير والمحبة والسلام، ما يزال بالإمكان تغذيتها والاعتناء بها، والاستفياء بظلالها.  وقد كان لـ "قسطنطين جورجيو" أن يدفع باتجاه طهارة "يوهان موريتز" وسط قذارات خانقة. ففي كلّ مرة كان يعاني فيها من استحقاقات غوته المأساوية، كان يعمد إلى التطهّر بماءٍ أخلاقي، لكي يُطفئ جذوة تلك الروح الشيطانية. وقد استطاع في نهاية المطاف أن يسحب فتيل تلك الروح ويودعه العدَم، داخل النصّ، وخارجه أيضاً. مرةً بانتصار –داخل النصّ- سذاجة "موريتز" وطيبته، على كل الأحقاد والكراهيات التي عصفت بشخصيات الرواية. ومرة بانتصار أوروبا –خارج النصّ- لنبوءة "قسطنطين جورجيو" الأخلاقية، على حساب نبوءة "غوته" التدميرية.