Thursday 28th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    20-May-2020

أخْلَقَةُ الأدَب ومَنطقُ المصَادرة

 القدس العربي-واسيني الأعرج

في عالم معقد وتسيد وسائل الاتصال الجديدة، تراجعت قيم المنع القديمة بشكل ملحــــوظ ولكنها لم تمت.
تعود اليوم، في كثيــــر من السجـــــالات، فكرة تخليق الأدب La Moralisation de la littérature هنا وهناك، وتصادر وفق هذا المنطق الكثير من النصوص الأدبية، الروائية تحديداً، في معارض الكتاب العربي أو من المكتبات، بالحجة الأخلاقية التي تنطلق من البعد الجنسي بكل تمظهراته، وتنتهي إلى الذات الإلهية، مع أننا عندما نقرأ هذه النصوص المصادرة نكتشف أنها لم تصور أكثر مما هو موجود اجتماعياً.
يبدو الخلل واضحاً ليس في النصوص، ولكن في الذات القارئة، وفي الآليات التي تعتمدها في قراءة النص والحكم عليه. النص الأدبي قطعة من الحياة بكل تناقضاتها وصراعاتها وأفكارها، وليس فرماناً أخلاقياً عليه أن يتبع قواعد مسطّرة سلفاً، وإلا لما كان الأدب العالمي كما نعرفه اليوم، مساحة للحرية والجمال.
مخاطر هذا المنطق في العالم العربي هي أنه ينبني على رؤية مزدوجة ينتابها داخلياً التفكك واللامنطق. منطق المنع يغيب ويحل محله الإعجاب أثناء قراء الرواية الغربية في لغتها الأصلية أو مترجمة، بينما نفس المنطق ينقلب ضد النص العربي عندما يتحدث عن نفس الموضوعات الجنسية أو الدينية.
هل يجوز للنص الغربي وما لا يجوز للنص العربي؟ بهذا المنطق نجد أنفسنا أمام رؤية دينية حتمية، أي ما هو محلل عندهم محرم عندنا، وهذا نقيض وظيفة النص الأدبي الجمالية والإنسانية. الإنسان واحد أينما كان واينما وجد، وأهواؤه وغرائزه الجوهرية لا تختلف.
هناك حالة تجيير للنص ليصبح مجرد ترديد لما تريده القوى المهيمنة اجتماعياً ودينياً وسياسياً. نص يفضح استثمار الدين لأهداف سياسية، يصبح في منطق الذي صاره، مضاداً للذات الإلهية، نص يفضح الفساد المالي والحكامة الغائبة، في لحظة من اللحظات التاريخية، يصبح معادياً للوطن وللحاكم ومرتبطاً بدوائر أجنبية مغرضة، وهكذا. ماذا لو استعدنا في هذا السياق نفسه شاعراً عظيماً كأبي نواس، غير من النظام اللغوي الخشن وهذبه، وليس اليوم شعراء كبار كنزار قباني ودرويش إلا أتباعاً أوفياء لجهده اللغوي.
لم يكن أبو نواس مبدع غرض قائم بذاته فقط: الخمريات، لكنه كان وراء اللغة الشعرية الرقيقة الحاملة له، التي قطعت مع الحوشي والثقيل والبدوي من اللغة العربية وأصبحت لغة حضارية ورقيقة. وماذا لو دوحنا بأبي العلاء المعري في عصرنا، ماذا سيبقى منه؟ ستصادر كتبه، بالخصوص نصه المرجعي التخييلي العظيم «رسالة الغفران»، وسيحاكم بتهمة الزندقة التي سبق أن اتهمه بها ابن كثير وابن قيم الجوزية «زَنَادقَةُ الإِسْلاَمِ ثَلاَثَة: ابْنُ الرَّاوَنْدِي، وَأَبُو حَيَّانَ التَّوْحِيْدِيُّ، وَأَبُو العَلاَءِ المَعَرِيُّ، وَأَشدُّهُم عَلَى الإِسْلاَم أَبُو حَيَّانَ، لأَنَّهُمَا صَرَّحَا، وَهُوَ مَجْمَجَ وَلَمْ يُصرِّح». دون أن يجدا صدى لتهمهما، لأن أبا العلاء المعري ظل يكتبه على الرغم من المحبسين: فقدان البصر، والانكفاء الذاتي في البيت.
من هذا المنظور، يجد هذا الموضوع كل مسوغاته الموضوعية، ويستحق التأمل والتبصر. هل يجب أن نضع للأدب ضوابط أخلاقية نجيز فيها ما يجب أن يجاز بالمنظور الأخلاقي، وما يجب منعه؟ الكثير من سدنة الأخلاق ينبهون الكاتب إلى المخاطر التي يمكن أن تخلفها رواياته في نفوس المراهقين، والمراهقات تحديداً، الذين يصدقون كل ما يقرأونه على أساس أنه رديف للحياة المعيشة؟ حيرة قد تكون وجيهة في المطلق إلى حد ما، ولكن هل وظيفة الكاتب أن يشرف على أخلاق المجتمع ومراقبتها وحمايتها. هل يملك هذه السلطة أصلاً؟ أليس الأدب لحظة إنسانية، ولحظة وعي تتشكل من خلال منظومة حياتية بكاملها؟ الأدب لا يعلم الأخلاق ولا ينتقي لقارئه ما يجوز وما لا يجوز، ولكنه هو الأخلاق عينها؛ أي يدخل من خلال المنظومة اللغوية المؤثرة إلى جوهر الإنسان: حريته. كيف تكون هذه الحرية وسيلته لتخطي كل معوقات الحياة وإعادة بنائها وتركيبها. بمعنى، هل المجتمع كتلة بشرية واحدة، بلا عقل ولا تربية أو مهزوزة في الأعماق، تنتظر من الكاتب أن يحركها أو أن يدفع بها إلى الهاوية. الكتابة هي لحظة يجد فيها القارئ مساحته التي سرقتها منه الحياة بكل عنف. رواية لا تحسس قارئها بهاجس الحرية كبحث دائم، لا أعتقد أنها تستحق الالتفات إليها.
ذكرتني هذه الإشكالية بحادثة أدبية مهمة، درستها لطلبتي قبل سنوات، في جامعة السوربون حول الرواية والأخلاق في أدب القرن التاسع عشر الفرنسي. وكان الدرس حول رواية مدام بوفاري ومصادرتهاـ ومحاكمته. حوسب فلوبير بالضبط بهذه التهمة: كيف تكتب يا سيد فلوبير رواية قد تؤدي بمن تقرأها من المراهقات إلى الانحراف؟ فالرواية تعلمهن الفساد ثم الانتحار، مثالهن في ذلك مصير إيما بوفارها التي انتهت إلى الانتحار بالسم؟ وصودرت الرواية من الجريدة ومنعت الحلقات التي تلت، بنفس الحجة الأخلاقية.
وبعد سجالات طويلة ليس هذا مكانها، طلب محامي الدفاع أن يسمح بإحضار الأخلاقي الكبير لمارتين الذي تابع الرواية، وهو رجل الأخلاق العظيم. أدلى بشهادته أمام القاضي، معاتباً فلوبير: لقد أخطأت يا سيد فلوبير. في الوقت الذي انتظر الجميع أن ينتفض ضده أخلاقياً ويلومه عن أخلاق إيما بوفاري، قال: لقد عاقبت إيما بوفاري بقسوة على خطئها. نعم، هي أخطأت أخلاقياً، لكن عقابك لها كان قاسياً، أكبر من الخطأ نفسه. الدرس الأخلاقي في النهاية، بالنسبة للقارئ، قد لا يعتمد على ممارسة إيما أخلاقياً، لكن على النهاية المفجعة. ليس من وظيفة الكاتب أن يراقب تربية الناس. الكاتب يكتب داخل أفق إنساني. أن تكتب، هذا يعني أن تدخل إلى أعماق قارئك وتثير لديه فضول الشبه بينه وبين ما يقرأه.
لحظة القراءة ليست لحظة ثابتة ولكنها متحركة. ينتهي المفعول أو يخف لحظة الدخول في قراءة رواية أخرى. للقارئات والقراء قدر من الذكاء يجب أن نثق فيه يجعلهم يفرقون بين الأدب والحياة اليومية. في النهاية، السؤال الكبير الذي يجب أن يطرح، عندما نذهب نحو النص: كيف استطاع روائي من الروائيين أن يجعل من مادة اجتماعية وممارسات لا أخلاقية مادة أدبية قادرة على التأثير على القارئ ومثيرة للإعجاب ومربية للتأمل والذائقة والقيم الثقافية الجديدة؟ هل البناء ومنطق الرواية يستوعبان ذلك أم لا؟ هل برر الروائي أدبياً هذه الخيارات حتى في قسوتها الأخلاقية أم لا؟ هي ذي الأسئلة الجوهرية في اعتقادي، التي يجب أن تطرح بالنسبة لكل نص أدبي يواجه ترسانة أخْلقَة الأدب، الرثة.