Thursday 25th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    05-May-2017

التعددية الفكرية - د. محمد المجالي

 

 
الغد- لعل الواحد والوحدانية لا تنطبق ولا تستحق إلا على الله سبحانه وتعالى، فليس من خالق ولا معبود ولا مدبّر ولا متصرّف إلا هو سبحانه، له الجلال والكمال، وله خضعت مخلوقاته كلها، له الأسماء الحسنى والصفات العلا، سبحانه.
وما سوى الله فقابل للتنوع، بل ربما التنوع فيه آية من آياته سبحانه، فمخلوقاته متنوعة مختلفة في خصائصها، وفي ذلك حجة على المكلفين، فمن يخلق ليس كمن لا يخلق، وهو سبحانه قادر على كل شيء، ولا يعجزه شيء. ورسله وأنبياؤه كثر، ووحيه تنوع على أنبيائه، بل القرآن نفسه نزل على النبي صلى الله عليه وسلم على وجوه مختلفة غير متضادة، تتنوع فيها المعاني، وهذا من إعجاز القرآن حين تتعدد معانيه وتكون القراءة بمثابة آية أخرى.
فحين يشاء الله تعالى أن ينزل القرآن الذي هو معجزة الإسلام على أكثر من وجه –كما هو معلوم عند أهل التخصص- فهي رسالة إلى العلماء والمفكرين وغيرهم، أن لا يكون هناك لون واحد، ولا رأي واحد، ولا مذهب واحد، وأنا أعني هنا في الشريعة الإسلامية نفسها، فالتعدد مظهر إيجابي لا يمكن إهماله، لأن الناس في طبائعهم أنواع في الرغبات والتوجهات والطاقات والميول، ولذلك هناك أركان وما سواها فروع، وفي الفروع يجوز الاختلاف حيث التفاصيل.
ومن جهة أخرى، فقد شاء الله سبحانه أن لا يكون النص القرآني في غالبه قطعي الدلالة، بل ظني الدلالة والمعنى، حتى يكون الاجتهاد والتدبر واختلاف الأفهام، من دون تعارض ولا إخراج للنص عن سياقه ومدلوله العام، ومن هنا فقد وضع العلماء قواعد وأصولا للتفسير، وبهذا نضمن أن لا يخرج التفسير عن مقاصد الإسلام العامة الثابتة، ولا نخضع القرآن لأمانينا وأهوائنا، فالقرآن إمام يُتّبَع، لا تابع لأفكارنا، ومن جعل القرآن أمامَه وإمامه قاده إلى الجنة.
وبعد هذا التقديم حول القرآن الذي هو كلام الله ومعجزة الرسول صلى الله عليه وسلم، ندرك أن من طبيعة البشر أن يختلفوا، ولكنه اختلاف التعدد الذي يثري الأفكار، لا اختلاف التضاد الذي يفسد ويفرّق ويشتت الأمة، وقد حصل أن افترقت الأمة قديما كما افترقت أمم قبلها، وهذا ناتج عن الخروج عن الشروط واتباع الهوى: "ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله"، أما سوى ذلك فممدوح مطلوب.
لقد أقرّ النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في مسألة الاجتهاد والاختلاف فيه، ومن أوضح الأمثلة على ذلك حين أمرهم بالمسير إلى بني قريظة، وقال: "ألا لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة"، وفي الطريق أدركتهم الصلاة، فمنهم من صلى، على تأويل كلامه عليه الصلاة والسلام بأنه أراد الإسراع، ومنهم من لم يصلّ أخذا بظاهر الكلام، ولما أخبروه عليه الصلاة والسلام بما حصل سكت، وسكوته إقرار وقبول، وإلا فلا يسكت على خطأ، وفي ذلك إجازة لكل من الاجتهاد في فهم النص، والاختلاف فيه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والنزاع في الأحكام قد يكون رحمة إذا لم يفض إلى شر عظيم من خفاء الحكم، ولهذا صنف رجل كتابا سماه (كتاب الاختلاف)، فقال الإمام أحمد: سمّه (كتاب السعة)"، وعن عمر بن عبد العزيز رحمه الله قال: "ما سرّني لو أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا، لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة"، فالاختلاف رحمة حين تتعدد الآراء والأحكام والفتوى، ولنا في قصة هارون الرشيد والإمام مالك رحمهما الله العبرة، فقد ورد أن هارون الرشيد قال لمالك بن أنس: "يا أبا عبد الله، تكتب هذه الكتب (يعني مؤلفات الإمام مالك وأهمها الموطأ) وتفرقها في آفاق الإسلام لتحمل عليها الأمة، فأجابه: يا أمير المؤمنين، إن اختلاف العلماء رحمة من الله تعالى على هذه الأمة، كلٌ يتبع ما يصح عنده، وكلٌ على هدى، وكل يريد اللهَ تعالى".
وفي عصر الانفتاح وتنوع الثقافات والثورة التكنولوجية، فمن العسير جدا أن أحمل الناس على رأي أو مذهب فقهي أو حتى على مذهب عقدي، كالسلفي والأشعري مثلا، وهنا نوجه العلماء وأصحاب التوجهات الفكرية والجماعات إلى ما فيه خير هذه الأمة، أن نعظم الجوامع ونحترم الفروع وما فيه الاختلاف، فما يجمعنا أكثر بكثير مما يفرقنا، وهامش الاختلاف هو غالبا في الفروع، فلا يفسد للود قضية، والأصل أيضا احترام الرأي الآخر، بل ببحبوحة أكبر أن نطبق لا مجرد أن نردد تلك المقولة الرائعة: (رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب، ففي هذا من رحابة الفكر والإعذار للآخرين ما فيه، بل تنازل أحدنا عن رأيه إن شعر أن رأي غيره أصح وأوْلى بالاتباع، بهذه البحبوحة لا بالتعصب والانغلاق يمكن أن نتقدم ونتفادى أسبابا كثيرة من الفرقة والتطرف.
أزعم أن من أسباب التطرف الذي يهدد البشرية ويُتَّهم فيه الإسلام، أن من أسبابه هذا الانغلاق والتعصب، لأن أحدنا حينها لا يرى إلا لونا واحدا ورأيا واحدا، وليست المشكلة هنا، بل حين يقوده التعصب إلى تعظيم حاله ورأيه، وبعدها إلى احتقار غيره وازدرائه، وخطوة أخرى حين لا يرى أن غيره على حق، وبعدها حين تسوّل له نفسه بتسفيه الرأي الآخر وربما تبديعه وتكفيره واستحلال دمه، وهكذا ينشأ التطرف.
لا أدري كيف نكون أصحاب رسالة عالمية، ونريد هداية الناس لهذا الدين، وفي المقابل لا يحتمل أحدنا رأيا آخر داخل إطار الإسلام!؟ وكيف لنا أن نكون قدوة للآخرين ونحن يحتقر بعضنا بعضا، بل يضيق صدر أحدنا عند سماع آخر، وربما يحقد عليه ويود إلغاءه لأنه من مدرسة فكرية أخرى ومن مذهب آخر!؟ فهذه مصائب آن الأوان لنترفع عنها ونعيش رحابة هذا الدين العظيم في مبادئه وتوجيهاته.