Friday 19th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    13-Jan-2023

الثنائيات المزيفة في الثقافة العربية

 الدستور-غسان إسماعيل عبدالخالق

يجيد المثقفون العرب لعبة التنكّر لثنائية الدولة والمجتمع ـ وهي الثنائية الحقيقية الوحيدة الجديرة بالبحث ـ عبر افتعال وابتكار العديد من الثنائيات المزيّفة التي استأثرت وما زالت تستأثر بما لا يُعدّ من المؤتمرات والندوات والأبحاث والمقالات.
ولعل أقدم وأبرز هذه الثنائيات ثنائية (الأصالة والمعاصرة) التي لم تفعل أكثر من أنّها رسّخت التضاد الحاد بين الماضي والحاضر؛ فبدا الماضي بناية مهدّمة تقوم على حافة خندق يفصل بينها وبين بناية زجاجية بلا أبواب! وكأنّ الماضي لا يتواجد في الحاضر بصيغ مختلفة، وكأنّ الحاضر لا يلوّن الماضي بصور متعدّدة، وكأنّ من بشّروا بالقطيعة المعرفية مع الماضي شرطاً لإنهاض الحاضر، يتجاهلون حقيقة أن أوروبا لم تقطع مع ماضيها الإغريقي أو الروماني أو الكلاسيكي البتة؛ بل إنّها كلّما تعالت دعوات بعض مفكريها لإحداث هذه القطيعة، ازدادت حنيناً والتصاقاً ومحاورة لموروثها.
وتليها ثنائية (نحن والآخر) التي زادت الفجوة بين العرب وكل ما هو غير عربي، إلى درجة يمكننا الزعم معها بأنّ حالة من الشوفينية العربية قد تصاعدت في العقود الثلاثة الماضية، استناداً إلى أمجاد غابرة، رغم الواقع المهزوم والمنتهك داخلياً وخارجياً، سواء على الصعيد السياسي أم على الصعيد الاقتصادي أم على الصعيد الاجتماعي أم على الصعيد الثقافي.
أما ثالثة الأثافي فتتمثّل في ثنائية (العرب والغرب) التي فاقمت الإحساس الجمعي بالاستهداف وفتحت مصاريع الأبواب على وسعها، لنظريات المؤامرة التي توحي بأنّ العالم المتقدّم لا همّ له سوى التفكير بأمكر الخطط، لتدمير العالم العربي الذي أثبت المرة تلو المرة أنّه أمهر المدمّرين لذاته!
ولست بحاجة للتذكير بأنّ ثنائية (الهوية والخصوصية) قد راكمت على أرض الواقع، ماهية سائلة وهلامية من جهة وفكرة مثالية متعالية من جهة أخرى؛ فغدت الهوية بالوناً يطير منفرداً في الهواء، بدلاً من العمل على أن تكون محصّلة السلوك ونمط التفكير المأمول، حتى تظل صلبة وملموسة وقابلة للتحقّق.
كما لست بحاجة للتذكير بأنّ ثنائية (العولمة والخصوصية) قد كانت وما زالت مسخرة المساخر؛ لأنها أوحت بإمكانية التصدّي للعولمة عبر المحليّات والوطنيات، مع أنّ العولمة مرحلة متقدّمة من الرأسمالية المتوحشة العابرة والساحقة للحدود والجنسيات والقارات، إلى درجة أنّها لا تتردّد في افتراس المراكز التي أنجبتها، ومع أنّ العولمة لا تخلو من المزايا التي أسهمت في تشبيك العالم فعلاً _ وعلى رأسها وسائل التواصل الاجتماعي _ ومع أنّ الأجدى لنا هو التفكير الجاد بكيفية حيازة شروط الالتحاق بنادي صانعي العولمة التي تحوّلت إلى واقع يومي يغمرنا من رؤوسنا حتى أقدامنا، بدلاً من الاستغراق في أوهام مواجهة العولمة بالقصائد والأناشيد، ومع أنّ أبسط شروط مواجهة العولمة تتمثّل في سياسات حماية الهوية الوطنية والصناعات المحلية، التي لا تستأثر بالحد المطلوب من عناية صانعي القرار.
وفي مقدورك أيها القارئ العزيز أن تحدّث دون حرج عن ثنائية (المثقف والسياسي)، وكأنّ المثقف مهما بلغ انسلاخه عن الواقع يمكن أن لا يكون مُسيّساً، وكأنّ السياسي مهما بلغت معاداته للثقافة يمكن أن لا يكون مثقفًا! فهل تراني غفلت عن التنويه بثنائية أخرى؟ نعم! لقد فاتني أن أشير لثنائية (الفصيحة والعامية)، التي ما فتئ حرّاس اللغة العربية يلوكونها منذ عقود، مع أنّهم يعلمون حق العلم أنّهما تجاورتا واقترضتا من بعضهما البعض منذ صدر الإسلام حتى اليوم، ومع أنهم يعلمون أنّ الفصيحة مؤسسة دينية وسياسية وثقافية راسخة وغير قابلة للزعزعة، ومع أنّهم يعلمون أنّ كبار النحويين والأدباء القدماء، لم يتحرّجوا من التصنيف في العاميّة كما لم يتحرّجوا من التنويه بالإمكانيات البلاغية والدلالية التي تشتمل عليها العامية.
لماذا تترسّخ وتتكاثر هذه الثنائيات الضدّية المزيّفة إذن في الثقافة العربية المعاصرة؟ لأنها _ ببساطة _ مريحة جداً وتوفر إمكانيات لا متناهية لتوليد ما لا يُعد من ضروب التقابل أو التناقض أو الصراع الصوريّة، ولأنها يمكن أن توفر فرصاً جيدة للتخلّص من الشعور العميق بالذنب جرّاء التردّد في مناقشة الثنائية الحقيقية الوحيدة التي يجدر بالمثقفين التصدي لها، ألا وهي ثنائية (الدولة والمجتمع) بصيغها المختلفة، وعلى كافة الصعد.
وأحسب أنّ مواصلة البحث في هذه الثنائيات العقيمة، بعيداً عن امتلاك الشجاعة الكافية للخوض في شجون وشؤون قضية (العقد الاجتماعي)، لن توصل الثقافة العربية بوجه عام والفكر العربي بوجه خاص، إلا إلى الآفاق المسدودة والعبثية التي سبق للمثقفين العرب أن بلغوها، حينما سمحوا لأنفسهم بالاستغراق في قضية (السرقات الشعرية) التي استنزفت جهودهم لثلاثة قرون على الأقل دون طائل. وأحب أن أذكّر أيضاً بالسفسطائيين الذين ملأوا القسطنطينية بسجالهم البيزنطي، حتى إذا حاصر محمد الفاتح أسوار مدينتهم لشهور وراحت مدافعه تدكّها دكّاً، لم يجدوا مسألة يناقشونها سوى (كم عدد الملائكة الذين يمكن أن يقفوا على رأس دبّوس؟!)، وقد سبقهم في بغداد نفر من أشباههم فراحوا يضجّون بالتساؤل: (أرأيت إن جلستَ على جلد بعوضة؛ تنجس أم لا تنجس؟!).