Friday 26th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    18-May-2017

من وثائق الاسلام السياسية - ابراهيم العجلوني
 
الراي - كان يزيد بن الوليد بن عبدالملك من تقاة بني امية, وكان ثأر بابن عمه الوليد بن يزيد لظلمه وفجوره. وإن له لخطبة بالغة الدلالة على امرين مجمعين: اولهما أن التاريخ حفظ لنا سير اعلام صالحين في كل دولة من الدول التي عرفها الاسلام, كالدولة العباسية والدولة الاموية والدولة الفاطمية ودولة الموحدين وغيرها, وثانيهما ان شروط الامامة تكاد تكون واضحة في هذه الخطبة من حيث علاقة الحاكم بالمحكوم وما ينبغي أن يقوم به من واجبات ازاءه.
 
يبدأ يزيد بن الوليد خطبته ببيان اسباب ثورته بابن عمه الذي تجافى عن آداب الحكم في الاسلام فيقول:
 
«والله يا ايها الناس ما خرجت اشراً ولا بطراً, ولا حرصاً على الدنيا, ولا رغبة في الملك, وما بي اطراء نفسي, وإني لظلوم لها, ولقد خسرت إن لم يرحمني ربي, ويغفر لي ذنبي, ولكني خرجت غضباً لله ولدينه, وداعياً الى الله وسنّة نبيه, لما هدمت معالم الهدى, وأطفئ نور التقى, وظهر الجبار العنيد.. المستحل لكل حرمة والراكب لكل بدعة, مع انه والله ما كان يؤمن بيوم الحساب, ولا يصدّق بالثواب والعقاب.. فلما رأيت ذلك استخرت الله في امره, وسألته أن لا يكلني الى نفسي, ودعوت الى ذلك من اجابني من اهل ولايتي, حتى اراح الله منه العباد وطهّر منه البلاد, بحول الله وقوته, لا بحولي وقوتي..
 
وبعد شرح اسباب القيام على «الطاغية» يبيّن يزيد بن الوليد ميثاقه الذي يواثق الناس به. والذي ينطلق فيه من شروط البيعة بين الحاكم والمحكوم. وهو ميثاق اذا ترجمناه الى المصطلحات الديمقراطية المجلوبة من الغرب, وجدناه وافياً بدلالاتها وزائداً عليها, فهو يقول:
 
«ايها الناس. إن لكم عليّ أن لا اضع حجراً على حجر, ولا لبنة على لبنة, ولا اكري (أي أحفر) نهراً. ولا اكنز مالاً, ولا اعطيه زوجاً ولا ولداً, ولا انقل مالاً من بلد الى بلد حتى اسدّ فقر ذلك البلد وخصاصة اهله بما يغنيهم, فإن فَضَلَ فًضْلٌ نقلته الى البلد الذي يليه ممن هو أحوج اليه منه, ولا احمّركم (أي استبقيكم) في ثغوركم فأفتنكم وافتن اهاليكم, ولا اغلق بابي دونكم فيأكل قويّكم ضعيفكم, ولا احمل على اهل جزيتكم ما أجليهم به عن بلادهم واقطع نسلهم. ولكم عندي اعطياتكم في كل سنة, وارزاقكم في كل شهر, حتى تستدر المعيشة بين المسلمين, فيكون أقصاهم كأدناهم..».
 
ثم يختم يزيد بن الوليد الميثاق الذي يواثق به الناس بقوله:
 
«وإن انا لم أوف لكم فلكم ان تخلعوني, إلا أن تستتيبوني, فإن أنا تبت قبلتم مني, وإن عرفتم أحداً يقوم مقامي ممن يعرف بالصلاح, يعطيكم من نفسه مثل ما اعطيكم, فأردتم أن تبايعوه, فأنا أول من بايعه, ودخل في طاعته..».
 
تلك هي رواية الجاحظ «المعتزلي» لهذه الخطبة الشهيرة, وهي دليل على موضوعيته وشجاعته الأدبية في آن, إذ كان مقرباً من البلاط العباسي, وكان ثمة احتمال بأن يساء تفسير ايرادها منه.
 
بيد أن تقلّب الدول لم يكن يمنع مؤرخي الاسلام من ذكر مناقب تقاة الرجال, كما هو الامر مع عمر بن عبدالعزيز ومع صاحب هذه الخطبة التي لو تنزلت أحكامها الاسلامية على صيغ اجرائية معاصرة, لفاقت كل مبادئ الديمقراطية وتجاربها التي نعرف, مع فرية الايمان والاخلاص ومراعاة رضى الله سبحانه لا رضى العوام أو الخواص أو مراكز القوى كما نجد في الديمقراطيات الغربية قديمها وحديثها.
 
ثم إن مما يلفت النظر في هذه المواثقة (البيعة المشروطة) انها لا تخرج قيد أنملة على أحكام الاسلام, وأن صاحبها كان ينظر باحدى عينيه الى هذه الاحكام وبالثانية الى ما تمثله خلفاء الاسلام الاوائل منها.
 
ومهما يكن الامر فنحن أمام واحدة من وثائق الاسلام السياسية التي ينبغي الافادة منها في تجاربنا المعاصرة. بل ينبغي للبشرية كلها الافادة منها, إن كان ثمة من يستمع القول فيتبع أحسنه, ونحن لا نعدمهم في كل حال.