الدستور-إبراهيم خليل
في كتابه المثير للجدل «من إشكاليات النقد العربي الجديد» يشير د. شكري الماضي إلى ما تورّط فيه بعض الدارسين في قيامهم بكتابة بحوث يظنونها نقدية تحت عنوانات متكررة: كالتناص في شعر محمود درويش، أو التناص الديني في شعر أمل دنقل، وغيرهما.. مؤكدًا أن التناص، من حيث هو مفهوم، لا يكفي الدارس فيه أن يستقصي ما يرد في شعر الشاعر، ونثر الناثر، من عباراتٍ، أو إشارات مقتبسة من هنا وهناك. فهذه طريقة لا علاقة لها بمفهوم التناصّ، وتنم على فهم غير دقيق، وخاطئ، لهذا المصطلح.
وأكــّد هذا الرأي دارسٌ آخر هو د. مصطفى بيومي عبد السلام في كتابه «التناص: النظرية والممارسة» الصادر في العام 2010 عن النادي الأدبي في جدة. فالذين يفعلون ما ذكره الماضي يتوهمون أنهم بهذا ينتقدون النصوص باستخدام مفهوم التناص، وذلك ضرب باطلٌ من الظن.
ويجزمُ بعض الدارسين - للأسف - أن التناصَّ مصطلحٌ بنيوي، ويؤكدون ذلك تأكيدا شديدًا، مع أنه يقوم على فكرة تنتمي لما بعد البنيوية، تلك التي ترى بأن النص الأدبي ليس بنية محكمة، لا تحتاج إلى غيرها، أو لا تحيل إلا إلى نفسها، وإنما هو شبكة، أو فسيفساء، من نصوص أخرى. وهذا ما تكرر الإلحاح عليه في كتاب «علم النص» لجوليا كرستيفا. وهو ما تنبه له بوعي المرحوم جابر عصفور (1944- 2021) في سِفْره القيم «ذاكرة للشعر» (2003) نافيا فيه نفيًا قاطعًا أن تكون المعارضات الشعرية، وما صاحبها، وما خالطها من مظاهر تقليد، ومحاكاة، في شعر مدرسة الإحياء، ضَرْبًا من التناصّ، لأنّ التناصّ، في رأيه، لا يتحقَّق إلا في النسق المفتوح؛ والمعارضاتُ، من هذه الزاوية، نسق مغلق، غير مفتوح.
وهذا ما كان قد انزلق إليه المرحوم محمد مفتاح (1942- 2022) الذي خلط خلطًا غريبًا عجيبًا في كتابه «تحليل الخطاب الشعري: استراتيجية التناص» 1986 بين التناصّ والمفاهيم السائدة في نقدنا القديم كالسرقة، والأخذ، والاقتباس، والإغارة، والاختلاس، وجُلّ ما يندرج تحت مسمى السطو.
والواقع أن كثيرًا من النقاد، والدراسين، ولا سيما المبتدئون- أو المبتدئين- منهم، يقعون في هذا المنزلق الوعر. فعبد العزيز حمودة (1937- 2006) - وهو أكاديمي معروف - في كتابه «المرايا المقعَّرة» (2001) يخلط بين التناصّ والسرقات، بدليل أن أحَد الفصول في الكتاب بعنوان «السرقات الأدبية - التناصّ» ووقع في هذا باحثٌ آخر، وهو د. محمد عبد المطلب، وهو – كسابقه - اكاديميٌ معروفٌ - في كتابه «عبد القاهر الجرجاني وقضايا الحداثة» وكان قد صدر قبل المرايا المقعرة بزمن غير قصير (1995) ففيه ساوى بين التناصّ، والاقتباس، زاعمًا أن « التناص مفهومٌ واضحٌ لدى عبد القاهر الجرجاني المتوفى سنة 471 هـ قبل كلٍّ من جوليا كرستيفا، ورولان بارط(1915- 1980) « مؤكدًا ما ذهب إليه صبري حافظ(1935- 2010) في مقالةٍ له نُشِرت في العام 1984 بعنوان «التناصّ وإشاريّات العمل الأدبي» وأعاد نشرها في كتابهِ «أفق الخطاب النقدي» 1996 وأكــّدَ أن النقد العربي القديم شُغِل ببناء النص، وتفاعُلِ النصوص الذي يُعرف الآن باسم» التناصّ».
وممن أشاع هذا الفهوم الخاطئ للتناصّ، ورسَّخه، عبد الملك مرتاض (1935- 2023)، رحمه الله، فقد نشر مقالا بعنوان «فكرة السرقات الأدبية، ونظرية التناصّ» (1991) فالفارق بين السرقة، والتناصّ لديه فارقٌ كميٌّ لا أكثر، ولا أقلّ. وبالغ عبد الله التـطاوي صاحبُ «المعارضات الشعرية» 1998 في تطبيقه المتعسِّف لمفهوم التناص على ما هو معروف بالمعارضات، كمعارضة أحمد شوقي (1868- 1932) لنهج البردة، أو لنونية ابن زيدون (أضحى التنائي) أو لسينية البحتري (صنتُ نفسي عما يدنِّسُ نفسي) وعلى هذا الدرب غيْر الموطأ كان عبد الرحمن إسماعيل قد انتهج هذا النهج في كتابٍ له عن «المعارضات الشعرية - دراسة تاريخية نقدية «(1994). وأيدهما حسن البنّا عز الدين في مقالٍ عرض فيه هذا الكتاب عرْضًا نشره عام 1996 وأعاد نشره في كتابه «مفهومُ الوعي النصّي في النقد الأدبي» الصادر بمصر 2003 وفيه أضافَ إلى عنوان كتاب عبد الرحمن إسماعيل عبارة « بين التقليد والتناص». وهذه العبارة يُفهمُ منها أنّ ثمة فرقًا بين التقليد والتناصّ، لكنه، للأسَف، عدَلَ عن هذا التفريق، مؤكدًا بكلمة لا مواربة فيها، ولا لَبْس، أن المعارضات ضربٌ من التناصّ مستخدمًا اللفظ الإنجليزي intertextuality للدلالة على أنَّ رأيه في الأمر قاطعٌ، ولا رجعة فيه، إذ لا فرق بين المفهومين. وحذا عبدالله الغذامي حذْوَ غيره ممن ذكرناهم، خالطا بين البنيوية وما بعدها في كتابه «الخطيئة والتكفير» وهذا الكتابُ الذي صدر في زمن مبكر قياسًا بما ذكر من كتب(1984) يتحمَّل وِزْرَ الأخطاء التي وقع فيها كثيرون.. فهو يجزمُ، بعبارة لا تحتمل التأويل» أن تداخُل النصوص شيءٌ عرفه النقد العربي القديم، وتحدث عنه الحاتمي(388هـ) في «حلية المحاضرة» تحت مُسَمّى «المواردَة « والمعروف أن الحاتمي، كعادته، يتتبَّعُ سرقات الشعراء بعضِهم منْ بعض. ولا يخلو كتاب د. حافظ المغربي الموسوم بالعنوان «أشكالُ التناصّ وتحوُّلات الخطاب الشعري « (2010) الصادر عن النادي الأدبي بحائل، ودار الانتشار العربي في بيروت، من هذا الخلط المضطرب.
مختصرُ القول، وزُبْدةُ الحديث، هي أنّ الكثير الجمَّ من المقالات، والدراسات، والبحوث، والأطاريح، والمصنفات المنشورة، تتعامل مع مفهوم التناص تعاملا غلبَتْ عليه العشوائية، وعدم التدقيق في فهم المُصْطلح، وعلى ماذا يدلّ. فالزعم بأن التناصّ هو التأثر، أو التأثير، أو الأخْذ، أو الاقتباس، وأن النقد العربي القديم قد قال في ذلك ما لم يترك مزيدًا لمستزيد، أو إضافة لمستضيف، قولٌ فيه الكثيرُ من التسامُح.
التناصُّ وموت المؤلف:
وربَّ سائلٍ يسأل، لماذا تنفي عن السرقة الشعرية أن تكون ضربا من التناص، وتنكر ما ذُكر من إدعاءات؟ قيل في الإجابة عن هذا التساؤل: إن مبحث السرقة يقوم أساسًا على فكرة هي أن للنص قائلا، أي: مؤلفا. وهذا القائل المؤلف بمنزلة الأب من الابن. ولدى ما بعد البنيويين هذا أساسٌ غير مقبول، ولا معقول، إذ النص في رأيهم نتاجُ شبكةٍ من النصوص، فهو يكتب نفسه بنفسه، أي أنه سلسلة من الدوال التي تبحث عن مدلول، والقارئ هو الذي يكتشفُه، وباكتشافه يغدو النصّ نصًا آخر غير ذلك الذي نَنْسبه خطأً لمؤلفٍ ما، أو لقائل معين، ومن هنا جاءَ القولُ بموت المؤلف. فهم لا يطمئنون قطعًا لفكرة النَسَب، في حين أنَّ مبحث السرقات، سواءٌ أكانت في الشعر، أم في النثر، تقوم على فكرة تناقِضُ ذلك، وهي الحفاظ، بل التشبّثُ بنسبة المقول لقائله بما فيه من ظلالٍ وإيحاءات.
علاوةً على هذا تؤمن جماعةُ ما بعد البنيوية - بصفتها تيارًا غير بنيوي - بقدرة النصّ المستمرة على إنتاج نفسه، لأنَّ الكتابة - في رأيهم - حالة من الإرجاء، والاختلاف، بتعبير جاك ديريدا (1930- 2004). فالتناصّ، وفقا لهذا، يدمّر أبوة النصّ، وخرافة الحسَب والنسَب، ويحرصُ - في الوقت ذاته - على تبديل الدالّ، وتغيير مساره، وعلى انتشاره، وهذا بعيدٌ جدًا عن معنى القول: تأثر فلان بعلان، أو اقتبس هذا الشاعرُ من الأمثال، أو من القرآن الكريم، أو استدعى هذا النموذج الأسطوري، ولم يستدع غيره. وما ذكرناهُ في مستهلّ هذا المقال محاولاتٌ تعجَّل فيها أصحابها في التطبيق، قبل أن يُلِمّوا بأفق المصطلح إلمامًا فيه الحدّ الأدنى من التدقيق، والتحقيق، فكانت لهم كالمكيدة التي لم يسلموا فيها من الوقوع في الفخ.
الدَرُسُ المقارِنُ:
تأسيسًا على ما سبق، لا ينبغي لأيّ دارس أن يزجّ بالتناصّ، من حيث هو مفهوم تفكيكي Deconstruction concept، في سياق الدراسات المقارنةَ (بالكسر). فالمعروف أن نظرية المقارنة comparative theory قديمة العهد، وازدهرت في القرن السابع والثامن عشر، ولما كانت التفكيكية من التيارات الجديدة التي ما تزال، هي وأفكارها، موضع شك، فليس من الحكمة في شيء أن يُنظر للدراسات المقارنة ذات المنهجية الراسخة، والتقاليد المتجذرة منذ قرون، في ضوء التناصّ الذي هو طارئ، حتى وإن حَسُنَ تطبيقه، وجاد فهمه، ذلك لأنَّ المقارنة تشترط وجودَ قنواتِ تثاقُفٍ ينتقل عبرها تأثير عمل ما لآخر، ومن بيئة لأخرى، ومن لغة لأخرى. ولهذا، إنْ زعم زاعمٌ بوجود تناصّ مثلا بين الكوميديا الإلهية لدانتي (1265- 1321) والغفران للمعري (449هـ) فإن عليه إن يوضح لنا كيف تأتى لهذا الأثر العربي الإسلامي الذي كُتِبَ في القرن الخامس الهجري أن ينتشر تأثيرهُ انتشارًا يبلغ فيه بيئة الشاعر الإيطالي الذي عاش بعده بقرون، بلغته، أو بلغة قريبةٍ من لغته؟ وأن يدلل بالقرائن الملموسة، والبراهين المحسوسة، على وجود مثل تلك القنوات، وإلا فإن جلّ ما يقال، في هذه الحال، محضُ مزاعم عشوائية، لا علاقة لها بالمقارنة. ولا حتى بتلك التي تقوم على أساس الدراسات الموازية، وهي التي لا يُشترط فيها أن يكون صاحب النص(ب) قد اطلع على النص (أ) مثلما يرى فان تيغم.
ولا ريب في أن المهتمين بالمقارنة اطلعوا على ما كُتب في هذا الموضوع، نعني موضوع دانتي والمعري، فمن خلال البحث والتحري تبيّن أن الزعم بوجود أثر للمعري في الكوميديا الإلهية خطأ شائعٌ، وتبين أيضًا أن هذه العلاقة تقوم على شيء آخر، هو قصص الإسراء والمعراج التي عُثر على بعض النسخ منها في جزيرة صقلية مترجمةً للاتينية في الزمن الذي عاش فيه دانتي. وتبيَّن، علاوة على ذلك، أن هذه القصص، التي كتبت في زمن متأخر عن زمن وقوع معجزة الإسراء، اطلع فيها الغربيون على بعض المشاهد التي نسجتها المخيلة الشعبية عن معجزة الإسراء، وتسرَّب شيءٌ منها لجحيم دانتي. وقيل شيء كهذا عن جون ملتون Milton صاحب الفردوس الضائع Paradise Lost وتأثره بالمعري وبالغفران.
الترجمة والتناصّ:
وأما قيام كاتبٍ معين بترجمة أثر أدبي من لغةٍ لأخرى، قديما كان أم جديدًا، فلا علاقة له بالتناص، من قريب أو من بعيد. فالذين ترجموا الإلياذة أو الأودسّا أو الشاهنامة أو كليلة ودمنة أو الملاحم السومرية والبابلية (كلكامش) والنصوص المقدسة لدى قدماء المصريين، لا يُعدون من المنفتحين على مفهوم التناص، لكي يُنظر لعملهم هذا في ضوء ما بعد البنيوية. ولا ينبغي أن يفوتنا أنّ الترجمة هي قناةٌ من قنوات التثاقُف، ينتفع بها الأديب مثلما ينتفع بها غيره. فالذين ترجموا ألف ليلة وليلة للفرنسية، أو الإنجليزية، كالذين ترجموا العلوم، والقوانين، لم تكن ترجمتهم مقصورة على مخاطبة فئة محدودة من الأدباء، وكتاب القصص، بل كان قراؤها، والمتأثرون بها، من عامة الناس، والأكثرية الساحقة منهم قرؤوها، واستمتعوا بها، من غير أن يكتبوا سطرا واحدا يتجلى فيه التناصّ. فالترجمة، والاستشراق، كالاستغراب، طرائق ينتقل بها الفكر، والأدب، من جيل لجيل، ومن لغة لأخرى، ومن بيئة معيّنة لبيئات غير مُحدّدة، إذا لم تكن أهدافها شريرة.
المقصود واللاشعوري:
وها هنا يجدر بنا التنبيه على ظهور مؤثرات عربية، وإسلامية، في آداب الشعوب الأخرى، وكانت هذه المؤثرات وليدة الاختلاط عن طريق التجارة، والعلاقات الثقافية، والدبلوماسية، والاجتماعية المختلفة، بما فيها الحروب كالحروب الصليبية، وما كان يتكرر في الأندلس من إغارات وإغارات مضادة. وتعزى هذه الجوانب لترجمة بعض التراث العربي الإسلامي للغات أخرى، كالروسية، والألمانية، والفرنسية، والصينية، وغيرها. ولا يعد التأثر بذلك الذي تُرجم من باب التناصّ. فقد كان هذا التأثر مقصودًا وليس تأثرا لا شعوريا، فبوشكين (1799- 1837) مثلا أعجب بشخصية عربية إسلامية، وبالقرآن الكريم، فنظم فيهما شعرًا، وكذلك جوته (1749- 1832)، و هنريش هاينه (1798- 1856) الذي أعجب بشخصية المنصور بن أبي عامر (327- 392هـ). فهذا لا يعد من باب التناص، بل يدرس في الدراسات المقارنة بصفته مَظهرًا من مظاهر انتقال شيء من التراث واللغة، العربيين، والبيئة العربية، للغةٍ، وتراثٍ، وبيئةٍ أخرى، بمعنى أن هذه الدراسة تلقي الضوء على تجاوز الإبداع الأدبي للحدود الجغرافية والعرقية واللغوية. وهذا هو ميدان الدراسات المقارنة، لا التناصّ. إلى جانب البحث في تلقي هؤلاء الذين تُرجم لهم، وتفاعُلِهم به، وهل تلقوهُ بالرضا، أم بالغضبِ والسخط؟