Thursday 28th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    13-May-2020

تداخل الأنواع الأدبيّة في رواية «بغداد وقد انتصف الليلُ فيها»

 القدس العربي-فاضل عبود التميمي

تسعى هذه المقالة إلى الوقوف عند ظاهرة تداخل الأنواع الأدبية في رواية «بغداد وقد انتصف الليلُ فيها» للأديبة التونسيّة حياة الرّايس، الصادرة في تونس عن دار ميّارة 2018، وتداخل الأنواع الأدبية يعني، تجاور أكثر من نوع أدبيّ، في بنية الرواية الأدبيّة شرطه التمازج الشكلي المؤثّر في المضمون، الذي يتيح للمتلقي فرصة العثور على نصّ متعدّد، سواء أكان من الشعر أم من النثر، أم من الفنون المعروفة، وكان جيرار جينيت قد رأى أنّ الآثار الأدبيّة تدخل في الأنواع، والأنواع في الأجناس، والأجناس في الأنماط، في حركة تتشكّل فيها النصوص، ويعاد تنظيمها من دون أن يكون للتداخل تأثيرٌ سلبيٌّ يقدح في بناء المتون وتأريخها. هذا ما وجدته في رواية حياة الرّايس، التي تتداخل في متنها السيرة أولا، سيرتها في تونس وبغداد وقد أدخلتها في لعبة البناء الروائي القائم أصلا على ما هو تخيّلي، تمتد أنساقه إلى ضفاف الواقع، وإشكالاته ، لتكتب لنا رواية تعتمد في سياقها الحكائي اعتمادا شبه كلي على وقائع ذاتيّة، تكتسب صفتها الأجناسيّة بدخولها في فضاء متخيّل سردي على النحو الذي يدفعني، لأن أقول إن دخول السيرة الذاتية في متن الرواية أذن بدخول تونس وبغداد في المتن، وتبنى وجهة نظر الساردة في جملة القضايا التي عرضتها الرواية وهي تنتصر إلى الجمال.
وفي الرواية ثمّة مذكرات خاصّة بالساردة تسلّلت إلى المتن، فيها تفصيل لطبيعة الحياة الخاصّة للبطلة، وعلاقتها بالمكان الأول: بيت الأسرة، ونمط التعليم، والعلاقة مع الأم، والعمّة، والخالة، والانتقال من (نابل) إلى العاصمة، وهي في الرواية تدوين لذكريات قضتها الساردة في طفولتها، ومن ثمّ في شبابها في بغداد أيام الدراسة في كلية الآداب، وهي في مجملها ذات قيمة سرديّة تقاس أدبيّتها من عدمها بمعيار جودتها التي عملت على ردم الثقوب والفجوات، التي تخلّلت نص الرواية جرّاء الانتقال السردي من وصف إلى آخر، أو من زمن ومكان معينين إلى غيرهما، فتقوم الذكريات برَتْقِ الفجوات، وملئها بمضامين سرديّة مقنعة، فضلا عن إسهامها في تلقي المادة المسرودة وتقريب دلالاتها. ويجد متلقي الرواية في متنها جملة أشعار منها ما نقلته الروائية عن ملحمة جلجامش:
(تمتع بهناءاتك وما يولد لك من أطفال…
الآلهة أعطت الموت للإنسان واحتفظت هي بالخلود
وهو ما نحن عليه ولا محيد لنا عنه)
فالساردة في هذه الاستعارة النصيّة تماهت مع الملحمة، بوصفها خلودا يبتزّ خلود الحياة الكاذب، الذي لا يتساوى وخلود الأفعال الإبداعيّة ، لقد استهلت الروائية متنها تقول: (قدري أن أكتب خلودي بالكلمة كوهم جميل يساعدني على البقاء) ، وهو يتعلّق – هنا- بأفكارها التي ترى في الكتابة خلودا مع أنّها تدرك أن ذلك الخلود وهمها الجميل الذي سيساعدها في البقاء بين فعل القراءة وتأويل المتلقين، لقد آمنت بذلك بعد أن تأكّد لها أنّ (جلجامش) قد سبقها في إدراك طبيعة ذلك الخلود.
 
إنّ دخول البورتريهات في متن الرواية هو دخول ممكن بين نوعين سرديّين، كلّ واحد منهما يلتقي مع الآخر، في جملة خصائص بنائيّة معروفة تخص اللغة، والحـــدث، والزمكـــان، وغيرها.
 
وتقرأ في الرواية أشعارا لأبي القاسم الشابي: (عش للشعور وبالشعور فإنما….. دنياك كون عواطف وشعور)، و(عذبة أنت كالطفولة كالأحلام كاللحن كالصباح الجديد)، وتجد فضلا عما ذكر شعرا تونسيا تراثيا، هو أشبه بترنيمة نوم للطفلة حياة تتغنى بها أمها (بية): (سعد سعد وسعد سعد….. وعندي بنتي خير لي من ألف ولد)، لتؤكد من خلالها الأم أن البنت ليست قاصرة في الحياة، فهي خير من ألف ولد بلا فائدة.
إن تداخل الشعر مع متن الرواية أعطى فكرة عن تمازج لونين من الكتابة الإبداعيّة النثرية والشعرية، سببها أنّ الروائية كانت قد وقعت تحت هيمنة جنس الشعر، فهي لا تقوى على مقاومة إغوائه؛ لأنها شاعرة، ولا قادرة على مفارقة النثر لأنها ساردة، وهذا ما دعاها إلى القفز فوق (الحدود) التي وُضعت لكلا الجنسين، لترفض المعايير التي تأبى اجتماعهما في نص واحد، وبديهيّ أنّ تداخل أنماط الكتابة مهّد لحدوث تقارب بين الشعر والنثر، فإن نحا الشعر نحو النثر، وإن نزع النثر نحو مشاكلة الشعر فهذا يعني ظهور جملة من المتون الواقعة في حيّز بين حيّزين، أو في منزلة بين منزلتين، في مفترق السبل بين الشعر، والنثر، أي في متنيّة هجينة، حسب عبارة (باختين)، الذي يرى أنّ امتداد ظل النثر على مجال الشعر، أو انتشار ظل الشعر على مجال النثر، وما ينجر عنه من تماس بين مجاليهما لا بد أن يتخذ له شكلا، وأن تكون بعض الأجناس أداة لتجليه ، وهذا ما وضح في متن الرواية التي انمازت بشعريّة واضحة، وأسلوب مفارق لطبيعة السرد الاعتيادي.
ووُجِدَتْ في نصّ الرواية صورا تجسيديّة لبعض الأدباء في العراق، كانت حياة الرّايس قد التقتهم هناك، فيما كان وجودهم يتساوق والحياة الثقافية التي كانت تعيشها بغداد الثمانينيّات، تلك الصور هي (بورتريهات) مكتنزة بجمال كلّ من: الأديب متعدد الاهتمامات (جبرا إبراهيم جبرا) الذي كان ودودا وحنونا، في لقائه مع الساردة، فيه شيء من أبوة ومن طفولة، وكان بيته الكبير متحفا للفن العراقي تغطي اللوحات جلّ جدرانه، عامرا بالرفوف الزاخرة بالكتب، والأديب الفيلسوف مدني صالح، بجسده الممتلئ القصير المكوّر، الذي كان حسب وصف الساردة يريد أن يحوّل الفلسفة من مجرد كونها نظريات واتجاهات إلى أرض الواقع، ويجعل منها شأنا عامّا يخصّ الناس قبل الخاصة من أهلها، ذلك كان هدفه العظيم. وياسين خليل دكتوراه في علم الفلسفة الذي حظيت به الســـاردة، وكان يدرّس المنطق الرياضي، وفلسفة العلوم، وهو يفـــرق بين الثقـــافة العــربـــية والحضارة العربـــية، وقد رفض أن يكون قسم الفلسفة في آداب بغــــداد رديفـــا إلى قسم الدين، أو الشريعة لأنه قسم قائم بعلمه، ثمّ الروائي عبد الرحمن منيف، الذي اقترنت علاقته بالســاردة يوم أجرت معه حوارا صحافيا ثم صارت العلاقة نوعا من الصداقـــة الجميلة، كان منيف في البيت يشبه جنرالا كبيرا، لكنّه سرعان ما يتحول إلى إنسان لطيف ودود، ولاسيّما في ساعات السهر يقول الأشعار والملح، ويتحدث عن الثقافة بحب.
إنّ دخول البورتريهات في متن الرواية هو دخول ممكن بين نوعين سرديّين، كلّ واحد منهما يلتقي مع الآخر، في جملة خصائص بنائيّة معروفة تخص اللغة، والحـــدث، والزمكـــان، وغيرها، وتفترق في أخرى تتعارض شكلـــيّا وطبيعــــة السرد الـــروائي، لكن دخول البورتريهات في الرواية أعطاها سردا مضافا مركّزا دالا، وشعريّة مصدرها طبيعة الشهرة التي يمتاز بها كل واحد منهما، فضلا عن أنّ تضمين الرواية بتلك البورتريهات كان قد أسهم في تداخل المحكيّات في ما بينها، وهو ما جعل السرد منجذبا نحو أنواعيّة مؤثّرة تجمع بين إيقاعين: إيقاع البورتريه التكثيفي، وايقاع الرواية المنفتح على توالي وتائر السرد.
 
٭ ناقد وأكاديمي من العراق