Friday 19th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    17-Apr-2017

بين دولة التنويلاند ودولة إسرائيل - ديمتري تشومسكي
 
هآرتس
 
الغد- يعتقد البروفيسور شلومو أفينري أنه يتضح من "التنويلاند" – الرواية الخيالية ذات الرسالة السياسية التي نشرها ثيودور هيرتسل في العام 1902، ان أرض إسرائيل التي تخيلها هيرتسل ليست مجرد "محافظة اخرى في الإمبراطورية العثمانية" ("هآرتس" 10/4). ولكن مراجعة دقيقة للكتاب الذي بسط فيه مؤسس الصهيونية السياسية رؤياه عن صورة أرض إسرائيل بعد تحقيق تقرير المصير اليهودي فيها، تبين أن العكس هو الصحيح. 
في ثلاثة مواقع على الاقل في الرواية، يتبين بشكل واضح جدا أن تعريف "التنويلاند" كجزء من حكم ذاتي في الإمبراطورية العثمانية، يتطابق بالتأكيد مع الفكر الهيرتسلي بالنسبة للمستقبل السياسي لأرض إسرائيل. في أحد المواقع، الذي يروي فيه المؤسس و"المدير العام" لـ"التنويلاند" يوسف (جو) ليفي، قصة إقامة وتثبيت الاستيطان الصهيوني واسع النطاق في البلاد يشير فيقول: "تلقينا الحق بادارة المناطق المخصصة للاستيطان، ولكن سيادة جلالة السلطان التركي باقي فيها". 
بعد أن يكون الامتياز للاستيطان قد أخذ من الإمبراطورية العثمانية، وكانت الهجرة وبناء البلاد في ذروتهما، يروي جو ليفي اياه انه استدعي إلى القشطة كي "يستوضح على عجل موضوعا هاما مع الحكومة التركية". يشير مثل هذا القول بوضوح إلى أن تلك "السيادة لجلالة السلطان" على أراضي "التنويلاند" التي ذكرت من قبل، ليست رسمية صرفة، بل حقيقية. 
ولعل الدليل الأوضح على الوجود الملموس للدولة العثمانية في حياة قسم من سكان أرض إسرائيل الخيالية توفره الشخصية العربية لدى هيرتسل الا وهو البطل المسلم في الرواية، رشيد بيك. رشيد، مهندس عربي من مواليد الجليل، يتحدث التركية كلغته اليومية الاساسية، مثلما يمكن أن نتعرف على ذلك من دافيد ليتبك – صديقه اليهودي الصهيوني ومن المناسبات المركزية في حياة الجمهور في الكتاب – يتوجه اليه بالتركية عند ظهور رشيد الاول على صفحات الرواية.
مما يعني انه في نظر هيرتسل، فان المستقبل الثقافي لابناء البلاد العرب – وبالتأكيد المثقفين منهم، مثل رشيد بيك – كان ينطوي على مسيرة أتركة. وهذا بالمناسب يشبه رؤيا المثقفين والموظفين الاكثر تنورا في تركيا العثمانية اللاحقة في عهد هيرتسل، والتي مثلما تفيد آخر البحوث في هذا الموضوع، رأوا في الانخراط في الثقافة واللغة التركية السبيل الافضل بالنسبة للجماعات العرقية الإسلامية غير التركية في الشرق الاوسط العثماني. 
ومع أن هيرتسل لا يصف بالتفصيل صلة الدولة اليهودية الخيالية بتركيا العثمانية، ولكن من شبه المؤكد انه هكذا تصرف لان هذا كان من ناحيته أمرا مسلما به لدرجة انه غني عن البيان البحث فيه. فقد كان واثقا من أن تنفيذ تقرير المصير القومي لليهود سيتم في إطار سياسي أعلى لإمبراطورية قائمة، هي الإمبراطورية التركية. 
في هذا الشأن، لم يكن هيرتسل مختلفا عن كثير من زعماء الحركات القومية للشعوب غير اليهودية التي كانت تابعة للإمبراطورية الاكبر في نهاية القرن التاسع عشر. وبخاصة اولئك الشعوب التي في جوارهم الفوري وفي محيطهم السياسي القريب في وطنه النمساوي الهنغاري، بل مواقفه القومية الصهيونية. التشيكيون، الكرواتيون، البولنديون، الاوكرانيون، الغليتشيون، الرومانيون، الالبان والسلاف – فهم أيضا تطلعوا، احيانا حتى المراحل المتأخرة من اندلاع الحرب العالمية الاولى، إلى حكم ذاتي قومي إقليمي في داخل الكيان الإمبراطوري النمساوي الهنغاري، الذي كانت اوطانهم القومية خاضعة لسيطرته. 
هذه التطلعات المتواضعة لما يسمى في العلوم السياسية الراهنة "تقرير مصير دون دولة" لم تنبع من تخوف ما من اغضاب الإمبراطورية والكشف عن الرغبة الحقيقية في دولة قومية منفصلة ومستقلة (فالإمبراطوريات في ذاك الزمن على اي حال لم تنظر إلى تلك التطلعات كالمتواضعة على الاطلاق). فهذه الشعوب قررت مسبقا تطلعات واهداف متواضعة، انطلاقا من القناعة بأن التفكك التام للإمبراطورية القائمة لا يحسن بالضرورة للمصالح القومية الحيوية للجماعات القومية الصغيرة. 
وفي نفس الوقت، فإن فرضية هيرتسل في "التنويلاند" أن أرض إسرائيل المستقبلية ستبقى تابعة للسيادة العثمانية لم تأت لإرضاء السلطان التركي. فمن الصعب ان نتخيل انه في روايته سعى إلى تحقيق هذا الهدف وذلك لان وصف أرض إسرائيل العثمانية في ذاك الزمن كان يمكنه أن يثير حفيظة السلطان فقط وليس العكس. 
تفسير اكثر اقناعا يمكن اعطاؤه لاستمرار صلة "التنويلاند" للإمبراطورية العثمانية يكمن في حقيقة أساسية تتعلق بشخصية هيرتسل التي تنشأ من يومياته أو من "دولة اليهود" و "التنويلاند": بينما كان ثوريا متطرفا في فهم التجربة الاجتماعية والسياسية المستقبلية للشعب اليهودي، بقي هيرتسل – مثل كثيرين من بين زعماء الحركات القومية في عصره – محافظا جدا في كل ما يتعلق بالأطر والاشكال السياسية الامبريالية التي كانت قائمة في عهده.
"الجبناء والمترددون وحدهم يمكنهم ان يصدقوا الدمار التام للعالم"، يقول بصوت هيرتسل، فريدرخ ليفنبرغ، من أبطال "التنويلاند" الاوائل في مناجاة انفعالية تشكل بمفاهيم عديدة احدى ذرى الرواية. وهو يضيف: "القديم غير ملزم بأن يختفي دفعة واحدة كي يظهر الجديد". وهذا المنطق للتداخل بين القديم والجديد كان ساري المفعول أيضا بالنسبة للوجود المتزامن – المرغوب فيه في نظر هيرتسل – لـ "دولة" التنويلاند والإمبراطورية العثمانية. واضح أنه لا يمكن أن نستنتج من ذلك أن هيرتسل كان سيحزن على انهيار الإمبراطورية العثمانية، أو ما كان ليسعد في ضوء تحقق تصريح بلفور واقامة دولة إسرائيل. 
عشية الحرب العالمية الأولى، بل وفي قسم من أيام الحرب، كان دافيد بن غوريون من المؤيدين المتحمسين لرؤيا الحكم الذاتي اللوائي لأرض إسرائيل في إطار "دولة القوميات" العثمانية المتساوية، التي لم تقم أبدا (زئيف جابوتينسكي ترك هذه الفكرة قبل بضع سنوات من ذلك). ولكن مع سقوط تركيا، غير بطبيعة الاحوال فكرته بالنسبة للشكل المرغوب فيه لتحقق تقرير المصير القومي اليهودي، وهكذا سيتم غير مرة في سياق حياته السياسية. 
لم يطل عمل هيرتسل كي يرى التحولات الكبرى التي وقعت في المجال الاوروبي – الاسيوي في أثناء القرن العشرين. ولهذا السبب من المفضل أن ندرس ونفهم الفكر دولة الدولة لهيرتسل من خلال الربط التاريخي ابن الزمن. لا معنى لان يستخلص بشكل تعسفي فكرة الدولة القومية المتأخرة لعصرنا نحن حتى وان كان مثل هذا الاستنتاج يمكن أن يكون مريحا لنا اليوم لهذه الأسباب أو تلك. 
يمكن أن نفهم من كل هذا أمرين مهمين: اولا، كما يجدر بالظاهرة التاريخية السياسية الدينامية، لم تكن الصهيونية ابدا مستعبدة لفكرة واحدة ووحيدة من حيث شكل تقرير المصير القومي. 
فقد كيفت فكرها (في كل مرة من جديد) في هذا الشأن وفي مواضيع اخرى أيضا مع الخطاب والواقع السياسي – القومي في كل لحظة تاريخية معطاة. ومثلما قال بن غوريون في رده على ملاحظات مندوبي المؤتمر الصهيوني الـ 22 في كانون الأول 1946، "هكذا فقط" هو "فكر مناهض للصهيونية". 
ثانيا، واضح أن القيادات القومية المسيحانية لدولة إسرائيل اليوم، يركلون، لاول مرة في تاريخ الصهيونية، وبغرور اجرامي، ذاك المبدأ المتعلق بالصلة اليقظة والعميقة للواقع السياسي والدولي، والذي بفضل التمسك به حققت الصهيونية اهدافها السياسية. 
وبدلا من ذلك، فإنهم يتمسكون بشكل دوغمائي ومتزمت بفكر جامد لتقرير المصير  اليهودي، الذي يرفض الحقوق القومية للفلسطينيين ويتعارض جوهريا مع المبدأ الكوني لحق تقرير المصير القومي. وهكذا – وهنا محق البروفيسور أفينري – فإنهم يعرضون للخطر بشكل جسيم الاساس الوجودي للمشروع الصهيوني.