الدستور-عفيف قاووق/ لبنان
رواية «خنجر سليمان» للروائي صبحي فحماوي الصادرة عن الدار الأهلية للنشر، لو أردنا تجنيسها نجد أنها تُلامس العديد من الأجناس الروائية، فقد تضمنت لمحات تاريخية وبعضا من أدب السيرة، وكذلك أدب الرحلات، فضلا عن بعض الإشارات والرؤى السياسية والدينية، كما يراها الكاتب، والتي جاءت منسجمة مع مضمون الرواية، دون أن تبدو دخيلة أو مقحمة إقحاما فيها.
قدّم صبحي فحماوي روايته بأسلوب سردي سلس، وبلغة أنيقة، وكان لافتا تدخل الراوي في أكثر من موضع، ومخاطبته القارئ بشكل مباشر.. وهذا أضفى على الرواية نوعا من الألفة بين الراوي والقارئ، متخذًا من قضية سليمان الحلبي مناسبة لتقديم رواية بأبعاد اجتماعية وتاريخية وحتّى دينية في بعض المفاصل.
تطرقت الرواية إلى الوضع الاجتماعي إبان تلك الحقبة الزمنية متخذة من عائلة محمد الأمين الحلبي نموذجا، ومن جملة ما أشارت إليه هو موضوع الزيجة من امرأتين، والغيرة والمناكفة التي تنشأ بين الزوجات (الضرائر)، وكيف كانت ثريا الزوجة الفتية تتطاول علــى ضُرّتِها الحاجّــة أم ســليمان التـي أصبحت عاقرا، نظرا لكبر سنها.. محاولة إغاظتها والتباهي بأنّها حامل للمرة الثانية فتقول: «أننـي حامل وأتوحّم، وأشــعر أنــه ُ ولد شقي لأنــه يرافسُ ِ كثيراً فــي بطنــي.. وأمــا أنــتِ يــا حاجّــة فقد قطعــتِ ِالحبــل والولادة»(33).
وفي موضع آخر يورد لنا فحماوي ما تلجأ إليه النسوة للفت النظر إلى بناتهن، بغية تزويجهن، مثلما فعلت والدة الصبيّة أسمهان، وهي تخاطب ابنتها بالقول:
«يجـب علينـا أن نتـودد إلـى أمـه أكثـر فأكثـر، وأن نقــدم لهــا هديــة ترضاهــا.. مــا رأيــك بسـُـترة أغزلهــا لهــا بيــديّ مــن خيطــان الصــوف، فـالأم هـي مفتـاح زوجهـا، كمـا أن الــزوج هــو مفتــاح زوجتــه«(46).»
وكما أسلفنا فالرواية تضمنت ما يمكن تسميته بأدب الرحلات وأسهبت في ذكر مواصفات الأماكن والمدن التي تسلكها القوافل من حلب وصولا إلى مصر ومرورا ببعض المدن الفلسطينية. ولم يبخل الكاتب علينا فقدم لنا نبذة موجزة عن هذه الأماكن وتاريخ نشوئِها. وقد أتى هذا الوصف مترافقا مع خط سير القافلة المحملــة بمنتجات مــن الزيــت والصابــون والســمن البلــدي، ومرورها علــى محطــات البــلاد الســورية المعروفــة مثل معرّة النعمــان ومدن حمــاة، وحمــص ولم تغفل عن ذكر ساحة المسجد الأموي في دمشــق وأسـواقها كسـوق البزوريـة، ســوق مدحــت باشــا، سوق الحرير وأيضا سوق الخياطين(52).
بعدهـا تواصل القافلة سيرها باتجاه مرتفعـات الجـولان، ومنهـا إلـى بحيـرة طبريـا الرقراقـة الميـاه المنسـابة مـن جبـل الشـيخ. وبعدها إلــى بيســان وينابيــع بركهــا وبحيراتهــا ثم جنوبا باتجاه مدينة أريحــا ومن معالمها ســاحة قصــر هشــام الــذي يعتبــر مــن أهــم المعالــم الســياحية فــي فلســطين،(55). لتصل إلــى القـدس حيث المسـجد الأقصى وقبته المتلألئة، وجبــل الزيتـون.
لم يفت الكاتب من أن يتغنّي بالقدس التي تعتبر مركزا لتكامل الدينَين الإسلامي والمسيحي، والإشارة إلى بـاب العامـود أهــم الأبــواب فــي القدس وأجملهـا، ويعتبـر المدخـل الرئيـس للــمسجد الأقصى وكنيسة القيامة وحائــط البــراق. كما يُعرج بنا على أسواق القدس ومنهـا ّ ســوق العطاريــن، وســوق اللحاميــن، وســوق القطانيــن الذيـن يبيعـون القطنيـات، وسـوق الصاغـة وسـوق الحصـر الذيـن يبيعــون المفروشــات.
ويبدو أن انحياز الأديب صبحي فحماوي إلى التاريخ الكنعاني كان واضحا ، فلم يترك مناسبة إلا ويذكرنا بذاك التاريخ وبأن الكنعانيــين هم من أسسوا مملكــة غــزة فــي القــرن الخامــس عشــر قبــل الميــلاد وأطلقوا عليها اسم (هزاتــي) وقد احتلهـا الكثيـر مـن الغـزاة، كالمصرييـن الذيـن أسـموها )غزاتــو) واليونانيــون الذيــن كانــوا يســمونها (فــازا(، والأشــوريون الذيــن كانــوا يقولــون عنهــا (عزاتــي( لمقاومتهـا الشـديدة، ومن معالم مدينة غزّة وجــود قبــر هاشــم بــن عبــد منــاف الجــد الثانــي للنبــي محمــد بــن عبـد اللـه لذلـك يطلق عليها اسم «غـزة هاشـم» كمــا أنهــا مســقط رأس الإمــام الشــافعي (74و84). كما تشير الرواية إلى أن مدينة الخليل سميت بهذا الاسم نسبة إلـى ملـك كنعانــي قديــم كان اســمه خليــل«(64).
كما اسلفنا فإن الرواية تناولت بعض الجوانب الدينية التي أتت على شكل دروس في أصول العقيدة والفقه، كما تطرقت لمسألة التقريب بين المذاهب التي على رغم تعددها تبقى واحدة موحدة تحت سقف القرآن الكريم، وهذا ما أوضحه محمد الأمين بدعوته ابنه سليمان إلى احترام المســاجد مــن دون تحيــز إلاّ للقــرآن الكريم ، وعدم التفريق بين المسـجد الأقصـى فـي فلسـطين، والمســجد الحــرام فــي مكــة، والمســجد الأموي في دمشــق، والمســجد الأزهــر ومســجد الحســين ومســجد الســيدة زينــب فــي القاهــرة، ومســجد كربــلاء الحســين فــي العــراق، فجميع هذه المساجد لهــا هيبــة وإجــلال عنــد المســلمين عامــة»(60). ولم يتوان الحاج محمد الأمين بانتقاد بعض الممارسات التي يقوم بها بعض رجــال الديــن الذين يبتهجون إذا ســألهم أحدهــم فيجيــبوا بفتــوى أو بنصيحــة، وبيــن الفتــوى والنصيحــة تدفــع لهــم مــا تســتطيع، فمعظــم رجــال الديــن يحبــون قبــض النقــود، بحجــة توصيلهــا للمحتاجيــن، بينمــا قــد يأخذونهــا لجيوبهــم،»(23). كما أثارت الرواية مسألة جدلية وهي قضية إلزامية الحجاب للمرأة، وما ورد على لسان الطالب الأزهري عبدالله الغزي من وجهة نظر تقول «إذا كانــت المــرأة التــي تطــوف حــول الكعبــة مجبرة علـى الكشـف عـن وجههـا، فكيـف لنـا أن نطالبهــا بتغطيــة وجههــا فــي المجتمــع، ثــم إن تغطيــة الوجــه هــي من تعاليم اليهود الذين يسـمونهم (حريديـم) وليست من تعاليم الإسلام فــي شــيء»(153).
تبرز الرواية الخبث والنفاق السياسي الذي مارسه نابليون والطلب من جنوده أن يتظاهروا وكأنهـم مســلمون مؤمنــون، واتركــوا الأمــر لنــا نحــن لدراســة دينهــم، واســتنباط بــذور فنائهــم مــن داخـل دينهـم نفسـه ونجعلــه يلتــف إلــى الــوراء، ليبقــى يعيــش فــي كهــوف وســراديب الزمــن الــذي مضــى عليــه الزمــن، (115).
قدمت لنا الرواية صورة عن الممارسات التعسفية التي مارسها نابليون ومن بعده كليبر بحق الشعب المصري، ولم يُستثن من جور هذه الممارسات علماء الأزهر الذين كان لهم الدور الأساس في تحريض الشباب على الثورة والمقاومة فأصدر نابليون أوامره بـالقبض علـى المشـايخ وكبـار القـوم الذيـن أيـدوا إشــعال الثــورة، وأن يؤخــذوا إلــى شــاطئ النيــل ثــم تلقــى جثثهــم في ميــاه النهــر«.133.
كما تشير إلى جرائم الجيش الفرنسي التي ارتكبها بحق المصريين في المواجهات التي جرت في العديد من المدن والقرى، حيث أن الفرنســيين اســتخدموا جميــع أدوات القسـوة والدمـار لكبـت الشـعور الوطنـي، والقضـاء علـى المقاومــة التي كانت أولى مواجهاتها في معركة شبراخيت، التي سقطت بعد قتال عنيف .121 . كما أن نابليون أراد القضاء على الحضارة الفرعونية المصرية طالبا من جنوده أن يدخلوا الأهرام -كبريــاء مصر- وأن ينهبوا كنوزها.. ففرنسا -كما يقول- هي الأوَلى بها من هذا الشعب المصري المنشغل بالصلاة والصــوم والحــج، وغيــر القــادر علــى المواجهــة.122.
استطاعت الرواية أن تُعرِّي نفاق وخبث نابليون وعدم احترامه لقدسية الأديان، فلم يلتفت إلى القيمة الرمزية التي يجسدها جامع الأزهر الشريف، فأمــر جنوده بفتــح النــار عليه، ودكّه بالمدافع الهدّامة، قبل أن يدخلوه بخيولهم، ويعيثوا فسادًا ويهشّموا خزائن الطلبة، ونهب محتوياتها. ويُسهب الكاتب في ذكر سلوكيات الجيش الفرنسي وبشاعتها لدرجــة أن الأمهات المصريــات قمــنَّ بتشــويه وجــوه الجميلات من بناتهن، كي لا يتم اغتصابهن من قبل الفرنسيين، (151).
لم يستطع سليمان الحلبي أمام كل هذا أن يقف مكتوف اليدين معبرًا عن انزعاجه بالقول: »لقـد اختنـق صـدري بهـذا الجـو المهيـن لأمتنـا العربيــة، ولا بــد مــن الانتقــام مــن كليبــر ذات نفســه. وســنكون لــه بالمرصــاد«. 166. ولهذا تربّص بالجنرال الكريه، وعندما سنحت له الفرصة، استلّ خنجره الذي أهداه له علي الصباغ من غزة، وطعنه طعنات قاتلة قبل أن يتم القبض عليه. ويحكم كما أسلفنا بالإعدام حرقا، وتتم مصادرة جمجمته ووضعها في متحف الإنسان، -لاحظوا اسم المتحف- الذي يشغل الجزء الأكبر من جناح باسي في قصر «شايو» إلى جوار برج إيفل في فرنسا، بعد أن وُضع عليها عبارة «جمجمة مجرم».
ويبدو أن نابليون قد سبق السيء الذكر بلفور بدعوته لإقامة وطن قومي لليهود في أرض فلسطين، لينتشــر اليهــود ويســيطروا علــى الوطــن العربــي كلــه، هذه الدعوة الكريهة ليست مكرمة منه لليهود، بل إن ما يصبو إليه هو تفريغ فرنسا وأوروبا من شرورهم، ودعمهم لإنشــاء دولــة لهــم فــي فلســطين وســائر بقــاع الوطــن العربــي، ليكونوا رأس حربــة في استنزاف طاقات الشرق وإضعافه والتّنعُّم بخيراته.
ختاما رواية خنجر سليمان رواية شائقة استطاع الروائي صبحي فحماوي من خلالها أن يُمرر رسائل وإشارات بالغة الأهمية تسمح للقارئ إذا أراد بإجراء بعض الإسقاطات والمقاربات على ما تشهده منطقتنا العربية خاصة في هذه الفترة العصيبة التي تمر بها.