Friday 26th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    13-Jan-2023

بين الشعر والسحر نظرات في ديوان «سحر الكلام» لسعيد يعقوب

 الدستور-د. إنعام القيسي

لا أسعى هنا إلى إعادة ما هو متداول أو التّذكير بما قاله النقاد عن هذا العمل الشعري المتميز، وإنّما سأسعى إلى تقديم إضاءة عامة على العلاقة بين السحر والشعر، ومدى ارتباطهما أو اختلافهما، من جهة، ورصد حضور الخطاب السحري وتجلياته في الخطاب الشعري في هذا الديوان، من منظور فني وفي إطار التلقي والتأثير، من جهة أخرى.
لقد جاء عنوان هذا الديوان على خلاف عناوين كثير من أعمال الشعراء الذين يستمدون العنوان العام لمجموعاتهم الشعرية - عادة- من عناوين إحدى القصائد التي تضمها المجموعة، لما تمثله تلك القصيدة دون غيرها من أهمية في نفس الشاعر، غير أن الشاعر «سعيد يعقوب « لم يعتمد هذه الصيغة بل نجده يختار عنواناً شاملاً لمجموعته الشعرية دون الاعتماد على عنوان إحدى القصائد، التي ضمتها المجموعة.
وهو أسلوب يشير إلى أن الشاعر لا يمايز بين نصوصه، فهو ينظر إليها جميعاً بعين الرِضا، دون تفضيل إحداها على غيرها، كما يشير إلى مهارة الشاعر في اختيار عنوان قادر على الجمع بين متطلبات المعنى وجماليات التعبير الشعري في هذه المجموعة، وقادر على توجيه المتلقي نحو رؤية فكرية أو جمالية معينة دون حدوث انقطاع بين العنوان الرئيس ومتون النصوص، بل على العكس من ذلك، إذ نجد العنوان حاضرًا في كل قصيدة ومقطوعة، فالعلاقة بين العنوان العام ونصوص هذا العمل علاقة تبادل وتكامل فكلاهما يكمّل الآخــر، وهي علاقــة مبنية على التلاحم بين الاثنين.
لقد جاء العنوان «سحر الكلام» على صيغة المضاف والمضاف إليه وهما بمثابة الكلمة الواحدة، وشكل عتبة نصية تغوي بالقراءة لما فيها من اختصار شديد، على نحو تبدو فيه أقرب إلى إنشائيّة الشّعر منها إلى محددات الخطاب النّقدي، ومن شأن هذه العتبة أن تكشف جماليّة القول الشعري في الديوان، فتنير بعضاً من خباياه وتكشف بعضاً من جوانبه.
وعلى الرغم من أن هذا العنوان «سحر الكلام» جاء عنواناً مراوغاً، ذلك أنه يمكن أن تكون للقول عامة علاقة بالسحر حتى وإن لم يكن في قالب شعري، غير أن طبيعة هذا العمل الشعري تشير إلى أن الشاعر أراد بالقول: «القول الشعري».
ويشي هذا العنوان بأن هناك قوة تأثيرية يمتلكها الشعر والسحر معاً، فالسحرُ أداة من أدوات فرض الإرادة والرغبة في إخضاع الظواهر والأشخاص وارتبط بقوة الكلمة وفعلها وتأثيرها في نفوس متلقيها، فالشعر فن تخييلي جميل، والسحر مظهر تأثيري حير العقول وسرق القلوب. وبين الشعر والسحر سمات مشتركة، «فكلاهما يحققان تعبئة نفسية كبرى، وتركيزاً ذهنياً حاداً، كما أن فتنة الشاعر والساحر لغوية خالصة، حيث تظهر أهمية نجاعة اللغة في الحضور الكثيف للملفوظ، وهذا ما يفسر اعتماد السحر على اللغة أكثر من اعتماده على الحركة».
ويشكل الإيقاع وسيلة مشتركة أيضاً بين الشعر والسحر، فالإيقاع يعكس «هندسة الذات عند الشاعر والساحر معاً»، ولعله من المفيد القول «إن التصور العربي القديم لعملية الإبداع الشعري، جعلت الشاعر والساحر، يلتقيان على شفا عالمين مختلفين: عالم الإنس وعالم الجن».
أعود إلى تجليات سحرية الشعر عند «سعيد يعقوب»، فالشعر عنده نزف طويل ما له حد، وهو رحلة القلق المسافر في دمه، وهو في ذلك يحذو حذو المتنبي الذي ربط بين القلق والإبداع، بل جعل القلق مصدر الإبداع الشعري لديه، فقال:
على قَلَقٍ كأنّ الرّيحَ تَحْتِي
أُوَجّهُها جَنُوباً أوْ شَمَالاً
وهو أمر دفع محمود درويش إلى القول « كل ما أردت أن أقوله قاله هو أي المتنبي في نصف بيت: على قَلَقٍ كأنّ الرَيح تحتي».
وعلى الرغم من اعتراف الشاعر «سعيد يعقوب» في كثير من نصوص هذا الديوان أن السحر لصيق بالفنون الأخرى أكثر من التصاقه بالشعر، فالنحات كما يرى على لسان فتاته الجميلة يحيل الصخر نبضاً، فيسحر بالروائع كل عين، والرسام، صاحب فن، ليس يعلو عليه أي فن آخر، يقول مخاطباً فتاة « يحتاج حسنك ساحراً لا شاعراً، لأنه يحتاج لغة بها لم يسمع الأحياء، لكنه يرى أن السمة المائزة للشعر تفرض عليه الإقرار بأنه لحن سماوي الرؤى صدَّاح، فحروفه ألحان، وقلبه وتر؛ والشعر يدخله في عوالم غامضات، ويجعله في كل واد يهيم. ولما كان شاعراً يمتلك الكلمة الساحرة تتسع الرؤية لديه، وتضيق العبارة، فيلجأ إلى الرمز والإيماء، ويعلن أنه إذا لم يبتكر معنى جديداً فتركه الشعر محمدة وكسب، والشعر الساحر يفوق عند شاعرنا حسن جميلة في الكمال والبهاء، وقوله لحن شجي يخدر من سحره الأعضاء، وهو لا يعجز عن اختراع المعنى البعيد الأثر واستخدام الرمز والإيحاء، وهو فوق ذلك يبتدع قولاً يتلى بمحراب الهوى سوراً، وينثر من خلال ألحانه في سمع المدى عطراً.
ويؤكد «سعيد يعقوب» على سحر الكلمة التي يبني عليها خطابه الشعري الجماهيري، فهو يمارس تأثيراً كبيراً في نفوس الجماهير التي يخاطبها من خلال ما ينشده مع شعراء آخرين للحياة والجمال والضياء، ويهز بالأنغام قلب الصخر، ويتلو في المساء أحلى أغاريد الطهارة والبراءة والصفاء.
وهو أيضاً يظل يهتف معهم للجباه السمر التي كلَّلها الإباء، ويشد من أزر الرجال الثائرين الأوفياء، ويمجد الشهداء الذين رفعوا الرؤوس للسماء، ويمضي مع الشعراء إلى الحلم البعيد، في سبيل أن يبزغ فجر بعد طول ليل، كي ينصف الفقراء من جشع الطغاة الأغنياء، ويبني مع آخرين أيضاً الذي هدمته أيدي المارقين الأشقياء، ويعيد للدنيا الذي فقدته من معنى النقاء.
ويحضر الخطاب السحري في الخطاب الشعري في الديوان من خلال عدد من الأدوات الجمالية واللغوية والإيقاعية التي يوظفها الشاعر في نصوصه التي تتحدث عن شواغله الذّاتيّة وانفتاحه على هموم ومشاغل أبناء مجتمعه، لتحقيق سلطة الكلام وسحره، ولذلك لم يكن الإبداع الجمالي عند «سعيد يعقوب» مطلوبا ًلذاته، بل لتحقيق غاية أو حاجة في نفسه، ذلك أنه يريد أن يؤسس سلطة لقوله، وأن يفرض نفوذ هذه السلطة، من خلال توظيف أدواته الجمالية واللغوية والإيقاعية، وهو بذلك يحقق سلطة الكلام وسحره، كما أشرت.
وعلى الرغم من أنني أرفض من الناحية النقدية محاكمة الشعراء على أقوالهم، فإنني أقول لقد نجح الشاعر «سعيد يعقوب» في امتلاك القدرة على ممارسة «سحر الكلمة» على المتلقي، وقد داخله نتيجة ذلك اعتزاز كبير بقدرته الشعرية وإمكاناته الفنية في السّيطرة على الكلمة الشعرية وإخضاعها لسلطانه، وهو في ذلك أيضاً يحقق القاسم المشترك بين السحر والشعر، وبين الساحر والشاعر هو التعويل على «الكلمة» في تحقيق عزم الكلمات على إنجاز التأثير في المتلقي.