Monday 3rd of March 2025 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    02-Mar-2025

برهومة يكتب: رمزية صوم المسلمين والمسيحيين معاً

 

عمون
د. موسى برهومة
 
من النادر أن يتزامن صيام المسلمين في "رمضان" مع صوم المسيحيين الأرثوذكس والكاثوليك، حيث يمثّل شهر آذار 2025 مناسبة للعناق الروحاني، والالتئام الوجداني، ووحدة المشروع الديني، بما يحقق تطلعات البشر في السلام الذي صار متعنتاً بسبب الحروب والاضطرابات والانقسامات التي تعصف بالعالم.
 
هذا التزامن المدهش من شأنه أن يرسخ سلطة الأديان كقوة تحويلية في المجتمعات، كما أنه يوفر فرصة للإصغاء إلى المقدس وإعادة الاعتبار إلى سلطته وتفعيلها، على نحو يجسد أشواق عائلة الإيمان الواحدة، ويسمو بها.
 
هذا التزامن المثقل بالحمولات الرمزية المفتوحة على التأويل يحفّز الفاعلين الدينيين والاجتماعيين على "تفجير" طاقة الدين، بما يضمن محاصرة الشرور، والتعالي على التناقضات، والالتفاف حول المشترك الذي يستبطن روح الأديان جميعها، لناحية جعل السلام الوجهة الوحيدة الممكنة للتعايش، وبالتالي هزيمة اليأس وما يحمله من تصورات ظلامية منغلقة على نرجسيتها العمياء.
 
ويبقى العالم، في كل حين، في انتظار ضياءات "النار المقدسة" التي يؤمن المسيحيون بأنها ستشع من قبر المسيح بكنيسة القيامة في القدس المحتلة، لتعلن دائماً انتصار الخير، والتبشير بسيادة العدل، والقضاء على الكراهية وإنصاف المظلومين، وهي عناصر يفيض بها الدين الإسلامي، وخصوصاً في "رمضان" بحيث تكون "الزكاة" أوسع الأبواب للإطلالة على أوجاع المحرومين والرفق باليتامى، كما حضت الآية القرآنية (19) من سورة الذاريات "وفي أموالهم حق للسائل والمحروم".
 
الصوم يمثل بُعد المحبة في المسيحية التي ترى أن "الفقراء هم الشفعاء"، وكما أن الجسد من دون روح ميتٌ، فإن الإيمان من دون عمل ميت أيضاً. والمحبة في الأديان تعني التجاوز والغفران، وتضييق مساحات الخلاف، والتوجه إلى الغاية القصوى المنوطة بالإنسان والمتمثلة في إعمار الأرض وتأثيثها بالطمأنينة والصلاح.. وبالأمل.
 
في كلمته المؤثرة، مؤخراً، دعا الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إلى أن يكون الصوم تجسيداً لقيم التراحم والتعاطف والسخاء. وبعث برسالة دعم خاصة إلى جميع أولئك الذين سيقضون هذه الأوقات المباركة وسط أجواء النزوح والعنف، معرباً عن تضامنه مع "كل أولئك الذين يعانون في غزة والمنطقة بأسرها، إلى السودان ومنطقة الساحل وما وراءها".
 
الأوقات المباركة الآن يتعين أن تمتد وتتأصل وتنتج مفاعيلها، وهذا من التحديات الكبرى التي تقع على كاهل الأديان باعتبارها "ظاهرة كونية" بحسب تعبير عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم (1858 - 1917) الذي تحدث عن "الخشية الموقّرة" في الأديان بحيث تجسد المُثل العليا في المجتمع، فتعاقب المخطئين، وفي الوقت نفسه تحتضنهم إن هم عادوا إلى رشدهم الاجتماعي.
 
وللأديان سلطة رمزية تعكس الوعي الجمعي للبشر المؤمنين بها. وفي ضوء ذلك يغدو الدين هو الروح التي توحد الجميع معاً في المشروع الاجتماعي نفسه. وقد أثارت القوة التحويلية للدين ذهول دوركايم "الملحد" بعد دراسته الآثار التي تركها الدين على القبائل البدائية؛ حيث يقدم في كتابه "الأشكال الأولية للحياة الدينية" (The Elementary Forms of The Religious Life) سنة 1912، رؤية للدين تحاول أن تقبض على حقيقته، وتعتبره ظاهرة اجتماعية مؤسسة لكل الظواهر الاجتماعية الأخرى، التي انبثقت منها بشكل أو بآخر.
 
كان هدف دوركهايم الأول هو تحديد الأصل الاجتماعي ووظيفة الدين، لأنه شعر أن الدين هو مصدر الصداقة الحميمة والتضامن. وكان هدفه الثاني هو تحديد الروابط بين أديان معينة في الثقافات المختلفة، وإيجاد قاسم مشترك. لقد أراد أن يفهم الجانب التجريبي والاجتماعي للدين المشترك بين جميع الأديان، والذي يتجاوز مفاهيم الروحانية والألوهية.
 
لقد كان عالم الاجتماع الفرنسي ينظر إلى قوة الأفكار والمعتقدات والمشاعر في التغيير، وهو ما نعوّل عليه في "الأيام المباركة" التي نحياها الآن، من أجل وقف الحروب، ومواساة الضحايا، والانتصار للحق، وهي دعوة يتعين أن يتردد صداها في سائر أنحاء العالم الذي يحاول مجموعة من "المقامرين الجشعين" إلى إطفاء مشاعل الخير فيه، وتحويله إلى مشاريع عقارية، من دون اكتراث بعذابات البشر، ومن دون إصغاء لدروس التاريخ، وعواقب المستقبل.
 
ولا تحدّ التطورات التكنولوجية من قدرة الأديان على أن تستثمر في سلطتها الرمزية المؤسسة على القداسة، فالأديان شأنها شأن المعتقدات، تحضّ دائماً على الأفعال الأخلاقية حتى لو كانت في إطار "الدين المدني الخاص"، فالخير، ونبذ الاستيلاء على مقدرات الآخرين بالقوة الغاشمة، وإنصاف الضحايا، كلها قيم تنبع من جذر الروح الإنسانية التي أدركت منذ فجر وعيها أن الشر انحراف عن السليقة وتشويه للطبيعة.
 
في هذه "الأيام المباركة" التي تشهد الصيام المتزامن لأكثر المؤمنين في الأرض، نستذكر "وثيقة الأخوة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك" التي وقعها، في أبوظبي، البابا فرانسيس والشيخ أحمد الطيب إمام الأزهر، في 4 شباط (فبراير) 2019 والتي حضت على أن "العدل القائم على الرحمة هو السبيل الواجب اتباعه للوصول إلى حياة كريمة، يحق لكل إنسان أن يحيا في كنفها". كما أن "الحوار بين المؤمنين يعني التلاقي في المساحة الهائلة للقيم الروحية والإنسانية والاجتماعية المشتركة، واستثمار ذلك في نشر الأخلاق والفضائل العليا التي تدعو إليها الأديان".
 
ربما، بل من الضروري، أن تكون الأديان، حافزاً على التقارب، لأنها بطبيعتها متقاربة وتنهل من ينابيع الخير، فما مزقته الحروب، ربما تتكفل بالتئامه الموعظة الحسنة، ومن عاش بلا غطاء أو كساء أو دواء، ربما يحيا بروح التكافل الذي ينقذ حياة ملايين الأطفال الذين لا ذنب لهم، ولا حول ولا قوة لأبدانهم الضئيلة وارتعاشاتهم المخنوقة.
 
"أيام مباركة" كما قال الأمين العام للأمم المتحدة، ونأمل ألا تقتصر على فترة الصوم فحسب، بل أن تمتد وتتغلغل في عروق السَنة، والزمن المستقبلي القادم.