Tuesday 19th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    03-Mar-2021

مبدعون على ضفاف المئوية.. أديب عبّاسي.. الأديب والفيلسوف

 الراي- أحمد الطراونة

 
في سياق احتفال الأردنيين بمرور مئة عام على تأسيس أولى البنى الإدارية والسياسية والثقافية في مشروع دولتهم الحديثة، تحتفي «الرأي» برموز الإبداع والوعي الذين أضاءوا بقناديلهم دروب المسيرة، وأسهموا بنتاجاتهم في صياغة الوجدان، ودوّنوا بإبداعهم على صفحة هذا الوطن سيرته وسرديته.
 
وتقدم هذه الزاوية على مدار العام تعريفا بشخصيات إبداعية تركت منجزاتها بصمات واضحة في التاريخ الحديث.
 
أديب عبّاسي (1905-1997)، أديب ومفكّر وشاعر وفيلسوف وعالِم أردني، وُلد في بلدة الحصن، في بيت العائلة الذي بُني أواخر القرن التاسع عشر على طراز القناطر والعقود، وعاش فيه حتى وفاته. عرفه أقرانه منذ صغره على أنه الطفل الذكيّ والموهوب، وكان مرجعًا لزملائه في المسائل الدراسيّة المختلفة، وظل معروفًا في وسطه الاجتماعيّ بهذه الصفة حتى في مراحل دراسته الجامعيّة. كما امتاز بشخصيته التي تحب المجادلات الفكريّة والنقاشات العلميّة مع المثقّفين المحلّيين والأجانب. بالإضافة إلى أنه أتقن اللغة التركية بحكم ولادته في عهد الاحتلال العثماني، وبالرغم من سياسات التجهيل الممنهجة وأساليب فرض الثقافة التركية الدخيلة التي مارستها سلطات الاحتلال العثماني على الأردنيين آنذاك، إلا أن أديب عباسي ومنذ شبابه كان منفتحا على الثقافات الأخرى، وأتقن اللغة الإنجليزية وتحدّثها بطلاقة.
 
تلقّى أديب جزءا من تعليمه الابتدائي في مسقط رأسه حتى الصف الرابع، ثم وعلى إثر خلافٍ نشأ بينه وبين إدارة المدرسة انتقل، وبحكم نشاط والده التجاريّ، للدراسة في مدينة الناصرة ليكمل المرحلة الابتدائية، وواصل بعد ذلك تعليمه في معهد دار المعلّمين في القدس وتخرّج منه. ونظرا لتميّزه الأكاديمي حصل أديب على منحة من الإمارة الأردنية آنذاك لدراسة الاقتصاد في الجامعة الأميركيّة في بيروت، وكان من بين قلّة قليلة من الروّاد الذين حصلوا على منح للدراسة في الخارج، وقبل أن يُكمل متطلبات الحصول على شهادة البكالوريوس أُجْبِرَ على تغيير تخصصة لدراسة اللغة العربيّة وعلم النفس، وتخرّج في عام 1929. وكان قد أُجبر على تغيير تخصّصه بقرار من سلطات الانتداب البريطانيّة التي رأت فيه أردنيا ذا تطلّعات تحرّرية، وقد ظهرت عليه ملامح النبوغ والذكاء وصفات الإنسان الوطنيّ الذي لا يرضى لوطنه البقاء تحت رحمة الاعتماد على سلطات أجنبيّة، لذا استخدمت السلطات البريطانيّة نفوذها لتغيير اختصاصه من الاقتصاد، بصفته اختصاصا مؤثرا وحيويا.
 
عمل أديب بعد تخرّجه لمدّة عام واحد في وزارة الاقتصاد، وبعد استقالته منها عمل مُعلِّما منذ عام 1932 وحتى الأربعينيات، وانتقل خلال تلك الفترة للتعليم في السلط والكرك والحصن، ثم اضطر مجددا لترك مهنة التعليم بسبب نشاطه الصحفيّ في الصحف المصرية، وتفرّغ بعدها بالكامل لإنتاجه الفكريّ وعاش في بيته زاهدا رغم يسرة حاله.
 
كانت شخصية أديب متنوّعة وثريّة، إذ تمتّع بنمطٍ فكريٍّ متحرّرٍ ومَرِن، الأمر الذي جعله صاحب أثرٍ ملموسٍ في مجالات مختلفة، سواءً في مجال الاقتصاد الذي درسه في الجامعة الأميركيّة ببيروت، أو على صعيد المجال التربوي والعلوم والآداب والفلسفة والفِكر الاجتماعيّ، كما أنه كان مُهتما بعلوم الفيزياء والفلك، وله كتابات علمية نقد فيها النظرية النسبية للعالم الألماني الشهير آينشتاين.
 
مارس أديب الكتابة في سن السابعة عشرة، وراسل مجموعة من الصحف الأردنية والسورية والمصرية آنذاك (من بينها «الرسالة» و«المقتطف» و«الهلال» و«الرواية»)، ونشر فيها مقالاته، كما خاض مناظرات فكرية مع مجموعة من الأدباء والمفكّرين الكبار في القرن العشرين كان من بينهم العقّاد، وله مقالات في الفلسفة الإسلامية نُشِرَت في مجلّة «الرسالة» في أواسط ثلاثينيات القرن العشرين.
 
لأديب عباسي ستة وتسعون مجلداً ومخطوطاً غير مطبوع ولا منشور، باللغتين العربيّة والإنجليزية ومنها مخطوط بعنوان «فيلسوف الغابة»، بالإضافة إلى عدد من الكتب كان من أوّلها «عودة لقمان» بعدّة أجزاء، تضمن حكايات خيالية على لسان الحيوانات، مرّر خلالها مجموعة من أفكاره الأدبيّة ومفاهيمه الفلسفية التي تعبّر عن فكره الشخصيّ بأسلوبٍ قصصي مستوحى من بيئته المحلّية والأحداث التي عايشها والمزاج الشعبيّ الذي عاصره أديب عبّاسي في القرن العشرين.
 
له قصص وروايات ومقالات، نشرها بالمجلات المصرية، لم تجمع في كتاب إلى الآن، وله إبداعات أخرى مخطوطة يغلب عليها الطابع القصصي، كما ترجم الكثير من عيون الشعر العالمي عن اللغة الإنجليزية، وله مؤلفات مخطوطة يتضمن بعضها أفكاره الخاصة التي دفعته إلى الاعتزال، منها: «إنيشتاين في الميزان»، و«مؤامرة الصمت الكبرى»، وله تصويبات لغوية، عربية وإنجليزية، وبعض الكتابات العلمية.
 
لم يعترف أديب بغير العروض الخليلي والنهج التراثي في نظمه، واتسمت لغته بالفحولة والرصانة، وتوليد المعاني المستحدثة من السلوكيات التقليدية. وآثر الطريقة السردية، وأقام حواره بين الكائنات ليوصل أفكاره بطريقة تشخيصية أكثر حياة. له مطولات تدل على امتلاك ناصية اللغة، وتسلسل الأفكار، وتلوين المشاعر. وفي كل ما يكتب كانت معرفته بالتراث العربي وبالفكر العالمي تؤكد موسوعية ثقافته وقدرته على أن يكون مستقلاً في رأيه، حريصاً على هذا الاستقلال حتى لو أدى إلى نوع من الانفرادية.
 
نُشِرَ له بعد وفاته كتاب «بُنيّات الطريق»؛ أي التفرّعات الصغيرة من الطريق الكبير، وقد كتب فيه مجموعة من الخواطر والأفكار والمقولات التي تعالج زوايا فلسفية اهتم بها، منها ما هو جدليّ أو وجوديّ، أو ذات صلة بالقيم والأخلاق الاجتماعيّة.
 
كان الاهتمام الإعلامي بأديب عباسي لا يرقى إلى المستوى الذي يليق بمكانته وانتاجه الفكريّ، ويُعزى ذلك إلى أسبابٍ منها شخصيته التي امتازت بالزهد وعدم اللهث وراء تسويق الذات. في أواسط السبعينيات أجرت صحيفة «الرأي» مقابلة مع أديب أحدثت ضجّة في الأوساط الثقافية والإعلاميّة، وسُلِّطَت الأضواء عليه لأوّل مرّة بهذا القدر، وكان من تداعيات هذه المقابلة أن زاد الاهتمام به إعلاميا على صعيد الإذاعة والتلفزيون والصحف المحلّية، كما نُظِّمَت له مجموعة من الندوات العلمية في عدّة محافظات منها إربد وعمّان.
 
وكان أديب قد شارك في مساجلات نقدية مع الأمير (الملك) عبدالله الأول ابن الحسين، وعباس العقاد، وأحمد أمين، والأمير مصطفى الشهابي. وكرمه الملك الراحل الحسين بن طلال بمنحه وساما ملكيا تقديرا لمكانته الأدبية وأثره الفكريّ القيّم.
 
عاش أديب عباسي حياته زاهدًا في بيته الذي وُلِد فيه، وهو بيتٌ بُني أواخر القرن التاسع عشر، واهتم بإنتاجه الفكريّ بعيدا عن الأضواء وحبّ الظهور. كما عُرِفَ عنه قربه من الناس وحضوره مناسباتهم وتواصله معهم، تماما كما هي شخصيّة الأردنيّ المتفاعل مع بيئته والمنتمي إليها مهما بلغ نسيجه الفكريّ من التعقيد. ولم يكن له مزاجٌ غذائيٌ غير الذي يعرفه الأردنيّون في كل بيوتهم، لكنه كان ميّالاً إلى الطعام النباتي أكثر من الحيوانيّ، الأمر الذي يُضاف إلى مميزات زهده وتواضعه وانشغاله بالفكر أكثر من أي شأنٍ من شؤون الحياة اليوميّة، رغم توفّر الإمكانيات المادّية لديه للعيش برفاه أكثر.
 
لم يتزوّج أديب لأنه كان يرى في الحياة عذابا لا يريد أن يتسبب به لأطفاله في حال أنه تزوّج، ولربما أيضا أنه كان يعي تعقيدات حياته الشخصية وعدم قدرته على القيام بواجبات الارتباط بالزوجة بسبب انكبابه على الإنتاج الفكريّ والأدبيّ.
 
عانى أديب في سنواته الأخيرة من أمراض الهرم والشيخوخة، وتُوفّي في عام 1997، وكان قد تبرّع بقرنيّتيه بعد وفاته، وأوصى أن يُدفَن في قبرٍ متواضعٍ يُشاد ببعض تركته، وأن يُكتَب على القبر بيتان من الشّعر يجيب فيهما على أسئلة الناس التي ألحّوا بها عليه عن عدم زواجه:
 
"إنّي شقيتُ ولمْ أُرِدْ
 
مِثلي هُنا يشقى بَنيّ
 
أدنى الدُّنى أبدًا لهُ
 
ذو العقلِ والسّعيِّ الأبيّ».
 
كُتبت دراسات عديدة عن حياة وأعمال أديب عباسي ونظرته الفلسفية للحياة، وهو الناسك الزاهد الذي قضى حياته متفرغا لأبحاثه ودراساته التي أغنت المكتبة الاردنية والعربية.