Thursday 26th of December 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    20-Mar-2014

الحب والكتابة والموت... الأنوثة العليلة في رواية فاتحة مُرشيد (الحق في الرحيل)
رصين - د. رسول محمد رسول - مرَّة أخرى، تجود المخيلة السّردية للكاتبة المغربية الدكتورة فاتحة مُرشيد بمنجز روائي جديد هو الرابع لها، ويأتي إلى القارئ العربي هذه المرّة تحت عنوان (الحق في الرحيل)، وهو عنوان يطوي بين جناحيه ملفوظاً سردياً مُستلاً، وعلى نحو متناص، من الشاعر الفرنسي شارل بودلير، الذي قال يوماً: "من بين حقوق الإنسان التي تحرص حكمة القرن التاسع عشر على تعدادها، مراراً وتكراً، حقّان مهمّان تمَّ تناسيهما؛ الحق في التناقض، والحق في الرحيل" (الرواية: ص 4). وهو النّص/ العتبة الذي بدأ به المتن الروائي هديره السّردي، تلك العتبة التي أردفتها الناصَّة أو فاتحة مُرشيد بعتبة تالية، جاء فيها: "تحرّر من إرثك، من يقينك، ونقِّ السبيل من حصى الآخرين، ولو تهت، بعد حين، لا تسل العائدين من الجحيم، سل الطيور المهاجرة" (الرواية: ص 7).
وإذا كان النّص/ العتبة الأول، قد حسم مصدرية أو مرجعية عنوان الرواية، مع الإحالة إلى فلسفة خطابها الكلي، فأن النّص/ العتبة الثاني أحالنا على مفردات ما سيجري، ذلك أن التحرّر، والإرث، واليقين، والآخرين، والتيهان، والعائدون، والطيور المهاجرة، إنْ هي إلا ملفوظات سردية مفتاحية تحيل القارئ الصبور على إمكانات ما سيجري في الرواية من أحداث.
يتضمَّن المتن النّصي أربعة فصول مطوَّلة، خُصص الأول والثالث والرابع للحبيبة الراحلة "إسلان" أو عاشقة الحق بالرحيل، أما الثالث فكان لحياة "فؤاد الزموري" عندما تزوج من "ربيعة" المغربية التي اغتصبها شقيقها "صلاح"، وحبلت من ذلك الشقيق بطفل معوق اسمه "الطاهر"، ليكون فؤاد الزوج المنقذ لأزمة اغتصابها، ويصبح أنموذجاً لـ "الشهامة المجسدة في إنسان" كما وصفته "ربيعة" نفسها ذات يوم (الرواية: ص 82 - 83)، لكنهما معاً يتفقان على الطلاق، ليرحل فؤاد إلى فرنسا، ويعيش هناك ردحاً من حياته مع أصدقاء له؛ يوسف، ورشيد، وحميد" (الرواية: ص 90 - 117) حتى يفترقوا، ويذهب فؤاد إلى بريطانيا ليعمل في الصحافة، أما الطاهر، أبن النطفة غير الشرعية، فسيموت بعد خمس سنوات (الرواية: ص 125).
تبقى الحكاية المركزية في الرواية ذات مساس بهذا الصحافي المغربي "فؤاد الزموري" (الرواية: ص 14)، الذي قدمه رئيس التحرير العراقي الأصل "خزعل" إلى إسلان، وهي فتاة مغربية تعمل في مدرسة فندقية، بأنه: "كاتب سري وصحافي علني" (الرواية: ص 14)، ومنذ تلك اللحظة تبدأ رحلة التعارف بينهما، ويوضِّح لها فؤاد معنى "الكاتب الشبح" (الرواية: ص 27)، وتطلب منه تالياً أن يكتب قصة حياتها في رواية وهو المغرم بها حد الجنون، فيرضى بذلك مع تأكيده بأنه "لنْ يكون الكاتب الشبح"، ولذلك قال لها: "أريدُ أن انصتَ إليك، وأدع قصتك تنساب بداخلي لتمتزج بقصص، تسكنني قبل أن أسكبها على ورق وقد تخمَّرت وتعتق ماؤها، أليس هذا ما تريدينه؛ أن تكوني شخصية في لإبداعي حقيقي؟" (الرواية: ص 32). 
وهذا يعني، أن فؤاد يريد أن يسرِّب شخصية إسلان الواقعية إلى عالم السّرد المتخيَّل، فتبدأ بسرد حكايتها أمامه في لقاءات أسبوعية سرعان ما تحوَّلت إلى يومية، وشيئاً فشيئاً صار سردها لقصَّة حياتها يتحوَّل إلى أرضية حب وغرام وجنس لتنتهي بالزواج بينهما، ويعودان إلى المغرب، لكنها تصاب بـ "سرطان اللسان" (الرواية: ص 134، ص 169)، وتطلب منه، وهي تحت آلام هذا المرض الخبيث، تطلبُ موتاً رحيماً لها: "أريد أن تعدني، يوم أصل الحدّ الذي أبدأ فيه بفقدان إنسانيتي، أن تساعدني على الرحيل بكرامة" (الرواية: ص 164)، فيستجيب لندائها بعد مخاض وفاء لعشقهما معاً، وكذلك "كإرادة أخيرة لإنسان يطالب بحقه في الرحيل يوم يفقد المرض والألم إنسانيته" (الرواية: ص 165)، ويفعل ذلك، ويسلِّم نفسه إلى الشرطة، فُيتهم بأنه قاتلها، ليُحكم عليه بالإعدام وهو الذي لم يكتب حكايات حياة زوجته إسلان في رواية حتى لحظة وفاتها، ليبدأ نزاعه مع ذاته وهو يجابه الموت المحتم في السجن، ويتحوَّل قدر الموت المحتوم ذاك إلى حافز لكتابة الرواية: "من الصعب جداً أن أكتبُ عنها، ومن المستحيل ألاّ أفعل" (الرواية: ص 9)، وها "أنا أقرّر، وبعد فوات الأوان، أن أفعل، وكأن لا بدّ للكتابة من موت حتى تتحرّر من سجنها" (الرواية: ص 9)، و"ربما كان يلزمني موتاً فقط" (الرواية: ص 10)، و"لكنني مُصرٌ أن أقول كلمتي قبل أن أرحل" (الرواية: ص 10). إنها ملفوظات استنفار الرغبة بالكتابة.
على عكس شخصية "إدريس" السلبية، بطل رواية فاتحة مُرشيد (الملهمات)، كانت شخصية فؤاد إيجابية الطابع في رواية (الحق في الرحيل)، لكن هذا البطل كان يعاني من أزمة العلاقة بالكتابة غير الشبحية حتى جاءت إسلان إلى حياته، وجعلته يتحوَّل عن ذلك إلى الكاتب غير الشبحي، وتشير بدايات المتن الحكائي إلى أن فؤاد لم يكتب رواية بطلتها إسلان حتى ماتت، بل وحتى  صار الموت قريباً منه؛ الموت الذي بدا عتبة تفصل بين عالمين؛ عالم بلا كتابة إبداعية، وآخر بها؛ عالم يقف الموت فيه كعتبة بين مسارين، عالم ما قبل موت إسلان انتحاراً، وعالم ما بعد موتها، يقف الموت في منطقة التلاقي؛ تلاقي العالمين.
من هنا، تبدأ العلاقة بين الكتابة والموت؛ فبطل الرواية المحكوم بالإعدام، تداهمه الكتابة وهو على مقربة من موته، وتداهمه الرغبة بالوفاء لإسلان رغم غيابها القسري وهي التي ماتت حتى إنه تمنى، وهو في سجنه، أن تكون للموت عيون لكي تقرأ ما كتبه عن حكايتها، فيقرّر كتابة الرواية التي يبدأ متنها الحكائي من الصفحة 13 وهو يقول: "إنني مصرٌ على أن أقول كلمتي قبل أن أرحل"، وهذا هو الملفوظ الذي يحيلنا على عنوان الرواية ضمناً، ما يعني أن الكتابة تحت ظلَّ الموت، والتي هي كتابة مثل الحياة، إنما هي حق من حقوق الرحيل عن الحياة، بل وحتى طلب إسلان من زوجها فؤاد موتاً رحيماً، وهي التي نهش السرطان جسدها، وعذّب روحها، لهو شكل آخر من أشكال الإحالة الضمنيَّة على العنوان (الحق في الرحيل).
ليس الموت وحده هو من كان العتبة الفاصلة بين الكتابة وعدم الكتابة، إنما الدمار والهدم هو الآخر مثَّل العتبة الثانية في ذلك، يقول فؤاد: "عندما بدأت كتابة هذه الرواية، لم أكن أنوي الكتابة عن ذاتي، إنما عنها هي فقط. اكتشفت الآن، سبب خوفي من العلاقة المباشرة بالكتابة، واختفاء الكاتب خلف الشبح؛ ذاك لأنه، وكما قال كونديرا، إن الروائي يهدم بيت حياته ليبني بحجارته بيتاً آخر، بيت روايته. وها أنا، من دون نية مسبقة، أهدم بيت حياتي على ورق لتقرؤوه" (الرواية: ص 88 - 89). 
في البداية، كان الحب حافزاً للكتابة الموعودة، وفي النهاية أمسى الموت حافزاَ لها، كان الحب مفصل بين عالمين؛ عالم الحب والرغبة بالكتابة، وعالم الموت والرغبة بالكتابة أيضاً، وفي النهاية ولدت الرواية من دون أن يصطفي فؤاد عنواناً لها، ترك أمر ذلك إلى القارئ الذي سيظل يتشبث بكل ما له صلة بعنوان الرواية المركزي (الحق في الرحيل)، لتأتي الكتابة أو الرواية التالية أو الرواية في الرواية "مثل الحياة" كما قال (الرواية: ص 123).
أما من الناحية السّردية، ففي حدود الواقع المتخيَّل، يضعنا ملفوظ ما خاطب به قراؤه، "لتقرؤوه"، في صميم السّرد المفتون بذاته (Self - infatuated Narrative) الذي جرّبته فاتحة مُرشيد في هذه الرواية؛ فالراوي (Narrator) هنا يُرسل نداءً مزدوجاً إلى القارئ من خارج الحكي ومن داخله أيضاً، يريد أن يشاركه كل ما جرى عبر فعل القراءة. لكن الأمر لا يقف عند هذا الحد، فهدير السّرد المفتون بذاته يمضي واضحاً من خلال الراوي الداخلي كمرسِل (Distinateur)، والمروي له الداخلي كمرسَل إليه (Distinataire) عندما أخذت إسلان تروي حكايات حياتها لحبيبها فؤاد الذي وعدها بكتابة رواية عن حياتها، وكذلك من خلال تسريد فلسفة الكتابة وعلاقتها بالموت كما وردت في بعض الملفوظات السّردية آنفة الذكر، إلى جانب ما حفل به (الفصل الثاني) من حكايات قامت على مفصل الحكي، والمحكي، والراوي والموروي، والمروي له، وكل تلك المحكيات، وكل الحكائين، وكل المروي لهم من داخل الحكي، إنْ هي إلا مؤشّرات دالة على عالم السّرد المفتون بذاته. 
ناهيك عن أن ملفوظ "أهدم بيت حياتي على ورق لتقرؤوه" يشير إلى أن الكتابة هي الهدم وإعادة البناء، وهو ما مارسه فؤاد الذي تهدَّم مسكن كينونته ووجوده معاً لتأتي الكتابة ليس من أجل ترمم الحال، إنما لكي تعيده متخيَّلا ليكون في مواجهة الموت؛ فلا "بد للكتابة من موت لكي تتحرّر من سجنها" (الرواية: ص 9). 
وبذلك، تدخل الرواية في أجواء السّرد المفتون بذاته من دون أن تلجأ الناصَّة إلى صخب عثور الكاتب أو الناشر على مخطوط رواية ما، أو يأتي شخص برواية من خارج الحكي أو مجهول الهوية ويجد طريقة ما لنشرها في نص روائي، على العكس من ذلك، تجعل الناصة أو فاتحة مُرشيد من المحكي للتوِّ مآلاً يُولد ليصير حكاية الرواية الكلية، ولكن الأمر لا يقفُ عند هذا الحد، فالمتن الحكائي يبدأ من نهاية المآل والمصير، يبدأ من حيث ما انتهت الحكاية التالية أو حكاية إسلان التي روت تباعاً حكايتها منذ كانت جنيناً في بطن أمها لحبيبها، روت ذلك لفؤاد، وهو الذي، ومنذ صغره، تعوَّد الإصغاء إلى الحكايات: "كان سماع الحكايات مهنة أزاولها، وتدوينها حرفة أتقنها" (الرواية: ص 47)، حتى قرّر كتابة رواية عنها من دون أن يكون الكاتب الشبح، إنما الكاتب الإبداعي الحر، ومن هنا، لا تعد حكايات إسلان أمام فؤاد وحدها المؤشر على ارتماء (الحق في الرحيل) في أتون السّرد المفتون بذاته، فالمآل الذي سيصير إليه فؤاد هو اتهامه بالإعدام كونه قتل زوجته إسلان بقناعة إنسانية الموت الرحيم، وهو المآل ذاته الذي سيؤدّي إلى كتابة الرواية تلبية لنداءات الحب والكتابة والموت. 
وعلى سبيل المقارنة، اجد أن رواية (الحق في الرحيل)، بوصفها عملاً سردياً جرب الكتابة في فضاء السّرد المفتون بذاته، يقترب من رواية صدوق نور الدين (مريض الرواية) من حيث الرغبة بكتاب "يوسف" رواية عن حيوات يتم تجريبها، مع فارق تمامية الرواية الداخلية في تجربة فاتحة مُرشيد، وكذلك تشبه هذه الرواية تجربة (ليلة أفريقية) للروائي مصطفى لغتيري من حيث الكون الروائي الذي تنضّده، خصوصاً أن "يحيى البيضاوي"، وبدافع الحب، يعكف على كتابة رواية، مع فارق أنه لم يتمها، بينما فعل "فؤاد الزموري" ذلك في تجربة مُرشيد (الحق في الرحيل). وإلى جانب ذلك، لو أردنا وضع مقارنة بين تجربة مُرشيد هاته مع رواية حسين الواد (سعادته.. السيد الوزير)، ومن قبل رواية بشير مفتي (دمية النار)، سنلاحظ أن الروايتين الأخيرتين اعتمدتا على توظيف المخطوط أو الملف، ودفعه إلى النشر، بينما حرصت مُرشيد في روايتها الرابعة هذه على جعل ما جرى عبْر حيوات يومية لحبيبين، ومن ثم لزوجين، حكاية للرواية/ الحكاية التالية (Métarécit)، وهو أحد تضمينات السّرد المفتون بذاته، ولكن من دون صخب اللجوء إلى المخطوط أو الملف. 
أما السّرد المفتون بذاته فهو، ومن منظورنا الخاص، عبارة عن: وجود إبداعي متخيَّل وقد تحوَّلت كينونته المحضة أو الأساسية إلى موضوعة حكائية من خلال تمفصلها في مسالك أجناسية جمالية حكائية كالقصَّص والروايات والمسرحيات، تلك التي تتضمَّن حكاية تالية أو حكايات داخل حكاية كبرى يدخل فيها معمار الكتابة، وأحوال الكاتب، والقارئ، والمقروء، والناقد، والناص أو المؤلِّف، والناشر والنشر والمنشور، والمخطوطات، والملفات، والرسائل، والمظاريف، والصور الفوتوغرافية، واللوحات التشكيلية، كفواعل وعوامل مسرودة في عمل إبداعي متخيَّل وممهور بعنوان مركزي هو عنوان لقصَّة أو رواية أو مسرحية. 
أخيراً، تجدر الإشارة إلى أن رواية (الحق في الرحيل) صدرت عن المركز الثقافي العربي في بيروت والدار البيضاء عام 2013.
كاتب وأستاذ جامعي من العراق