Thursday 18th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    08-Aug-2020

شــــعـــراء اللقــــــاء الأول

 الدستور-ناصر الريماوي

  الشاعر الكنعاني عبدالسلام عطاري
التقيت به للمرة الأولى وجها لوجه منذ عشرة أعوام، وتحديدا في مقهى «ركوة عرب». قلت له بأني أعرفه منذ عشرات السنين.
فأحال الأمر إلى طبيعة الروح التواقة للتجوال.
وأن هذا الأمر قد جلب له الكثير من المتاعب.
أضاف بروية، بأن العشرات ممن لمْ يرهم أبداً في حياته قد هاتفوه ببعض اللوم على تلك الروح.
فعلى الرغم من نقائها إلا أنها تواقة للرحيل، والغياب المفاجىء، وأن عليه أن يكف عن بثها بينهم وبين أمسياتهم وزوايا بيوتهم، حيث يكثر الغياب، بلا سبب.
قال لي يومها: ولكني أعجز عن هذا.
رددت، بأني واحد منهم.
تأملني مليا وقال: ولكني لا أعرف سوى شخوصك القصصية، أعترف بأنني التقيت بهم لمرات قبل أن أراك.
أجبته: بأنني على خلاف دائم مع تلك الشخوص ولا تربطني بهم أية علاقة.
ثم أكدت له بأن معرفتي به تعود إلى عقود بعيدة.
فعاودته الدهشة، وعاد للصمت.
بعد أيام تبينت الحقيقة.
كان هناك ما يشير أننا التقينا ذات مساء كنعاني بعيد، فوق تلة «دوثان»، وكان الليل يعلو بنا كطرفة فيغسلنا بالنشيد.
اشتعل جمر الغرباء أسفل التلة، فجأة، لكن لم يمض وقت طويل حتى أدركنا بأنها ليست سوى مشاعل الرعاة، وهي تطوف بالمكان.
أصواتهم بدت لنا شبه مألوفة.. تشبه الرياح وحفيفها وهي تعبر أفياء الكروم، أو وهي تنثني أمام جذوع اشجار الزيتون الرومية على السفوح، وكان يغشانا من وقت لآخر حفيف أردية كنعانية عتيقة، فعرفناهم.
سمار ليل كنا ومن حولنا سكن الرعاة القدامى، بعد أن ضلوا الطريق إلى السهول، ذلك المساء.
بعد منتصف الليل بقليل، الليل المطل بعتمته على التلال المحيطة، وسهول الأرض المنخفضة، وتلة «دوثان» تحديدا، لمحت الشاعر، وهو يحبو متسللا نحو أمتعة الرعاة المتعبين.
رأيته وهو يغافل نومهم ليستل من عباءة كل واحد منهم قصبة ناي كنعانية مجوفة، ثم يلوذ بالفرار.
بعد أجيال طويلة، كنت أقرأ وأصغي لقصائد الشاعر، وكنت على أهبة الإدراك لفهم فحواها العتيق.
كانت قصائد زمنية غابرة تفوح منها روائح الأرض، رغم حداثتها القريبة. كانت ولعا حاضرا يجتره الوقت من صدر نايات قديمة، لرعاة قد ضلوا الطريق إلى السهول ذات مساء بعيد.
قلت للشاعر في وداعه، بين ميدان «باريس» ومقهى «ركوة عرب» في «جبل اللويبدة»: سأرحل، وقد ترحل أنت.. أما الرعاة فسوف يبقون.
ثم لم نلتق بعدها.
 الشاعر العرّاف علي شنينات
كان الوقت مطلع الصيف، وهو أوان النبوءة الأجمل في قصائد «الشاعر» البدوي، بين بقية الفصول، حيث التقيت به هناك، أمام «ساقية الدراويش»، للمرة الأولى.
وكان على اندفاعه الفطري بين أصص الرخام وصخب المدينة، ملفعا باخضرار التلال البعيدة في»مأدبا»، ومحصنا بسكينتها.
استوقفني يومها بين محترفات «الشعر» العديدة، ومقهى «ركوة عرب»، على امتداد الجبل العماني العتيق وفضاءاته، لصيف بأكمله.
ذلك المساء، في «ساقية الدراويش»، بين أكمات الورد، وفوق إحدى المصاطب المعلقة، بدا الشاعر العراف تائها، وهو يطارد طيف نبوءة ما، تستعصي عليه، بين ملامح صبية لا أعرفها.
لمحته وهو يحدق في خطوط كفها الهاربة ثم يعتلي بنظراته الحائرة قوس الرموش، والصبيّه التي تشاركه الأمسية ساهمة، تنتظر.
شرع يُحابي حجارة الودع أمامها حين استعصت عليه القصيدة ايضاً، ثم صاح بنا: ليس ذنبي أنا، أنا لا شأن لي، وُلِدْنَ مكتحلات بدرب الليل، حين عمّدهنّ الجنّ خلسة، لنقرأ هدبكِ الآن من جديد..!
في الزاوية البعيدة من محترف «رمال»، لمحته أنا وبعض أصدقائي، ذات ظهيرة حارة وصاخبة، وهو يمد يده بنزق إلى مزهرية جانبية، ليكسر عنق وردة، ثم يسارع ليضمد بها جراح قصيدة.
أنكرنا عليه فعلته ورحنا ننتظر المزيد.
دعانا إلى أمسية شعرية بين الأوابد التاريخية، بعد أيام قليلة.
يومها قال لي الروائي «جلال برجس»: صديقنا «الشاعر»، يبحث عن عرافة مؤابية، فهو يحتاجها لإتمام طقوس الأمسية.
ولم أفهم ما يعنيه «جلال» إلا بعد ليلة واحدة على تلك القصائد.
آخر النهار كدنا نصل، وقلنا في انسكاب الطقس ما أكثر الكلام.
كيف نام «الشاعر» وخلّى بيننا وبين ذخائر امرأة مكنونة تطلّ بلا جسد سفلي؟ ردّ من غفوته: «هدّني إرتياد المجازة، لكنني لم أتعب».
كنّا نطوق المكان ونحجب عنه المدى فلم يشرد بعيدا، قال لنا:
«يلزمني أكثر من قصيدة، وايقاع برّية بكر، ركضت على هذه الفلاة، ورمل صحاري لم يطأ صدرها ساحر، كي تكتمل فتاتي و تستحم بالحصى».
تنهّد، ثم واصل في حرقة، بعد تأمل عميق لنصفها المفقود:
«وعرّافة بارعة ترتق المزامير بخيط القافية».
أضاف قائلا: كل شيء قد تحقق ولهذا دعوتكم إلى هنا، فقط تأخرت عرّافة التعاويذ بالوصول.
كنت إلى جواره، فجذبني إليه وقال هامسا: «يستحيل على فتاتي أن ترتدي نصفها الآخر في حضوري، وبين جفنيها يرقد سبيُ عرّافة مؤابية، رمتها بالتعاويذ والرصد، منذ قرون، ثم رحلت».
صمت بعدها طويلا، أمام الحضور، ثم فاض بالشعر حتى امتلأ الفضاء وفاض، فوق تلك السفوح.
صرنا بعدها صديقين وهو يؤكد لي في كل مرة: بأنها غفلة «الشاعر» عن طقسه الوثني في استحضار فتاته.
مع أواخر الصيف، وموسم الراحلين عن صخب المدينة.
كنت أودع «الشاعر» العرّاف، فيما هو يشيع المقهى بصمته الثقيل، ويطوي جسد الوردة تحت عباءة الليل، وسط زهرية كانت لها، مودعاً نهاره الأخير، على سرّ عودة الروح.
وكنّا أنا وأصدقائي، على تلاشي وقع نعليه في عطفة المنحدر، نوصد آخر فسحة للنافذة، ونصغي لرحيله الأخير، وهو يلهج بالتمائم عائدا إلى «مأدبا».
مع الخريف، يفرغ المكان، لتتراءى لي بعض الوجوه الجديدة، أراها وقد احتلت مكانه الصيفي على الشرفة، وطاولة المقهى المجاور، وراحت تدب في المكان.
تعبر من أمامي، وهي تبتسم في صفاء وحذر.
الآن، وعلى وهج بعيد، ستذوي النبوءات الكثيرة في حضن الغياب، لتندثر وحيدة. وأما الشاعر العراف، فسوف يمضي الى حيث «نيبو».
إلى عباءة الأرض، الى حيثُ التلّة العالية، وهي تطيح
بعرش الأفق المترامي، لأظلّ على انتظاري وحيدا، لصيف آخر، لصيف جديد.
 شاعر الغربة طلعت شعيبات
كنت أحزم حقائبي للسفر، بين جدران تضيق مع مرور الوقت، بلا نوافذ ولا أبواب، لكنها تسمع وتصغي جيدا، وكان لزاما أن أختار بين بيت «العقد» بحجارته الرومية، وبين حاكورته الخلفية، المهملة، المسيجة بسلاسل الصبار.
عندها تذكرت صديقي «الشاعر»، طلعت، شاعر الغربة.
ووجدته أمرا منطقيا، فلربما اهتديت إلى بعض قصائده ووصاياه، وخرجت من حيرتي.
ذات يوم بعيد، وبين حارات عتيقة وضيقة، لم يطأ أرضها بشر، منذ ميلاد السيد المسيح، كان هو ينتقي جدارا قديما من طين وقش، وسط زقاق غائر في «بيت لحم» العتيقة، ليعلق ظله المتعب، ويرحل.
يومها، خلع ظله سريعا، ثم غاب، دون دعاء أو تعويذة تذكر.
قال لي محزونا: منذ سنين وهذا الوقت مرهون لفوضى ارتجالاتي في الفراغ، كلما نفضْتَّ اتربة المساء عن جسدي الطاعن في الغربة طالعني الجدار.
ثم أضاف مهموما: كيف لي أن أعلم وقتها بأن ذلك الجدار كان لحاكورة مسكونة، وعامرة بذؤابات المصابيح البالية، وحكايا الجدات؟
لم أقو على توجيه أي لوم له، فأول درس تعلمناه في الغربة: «كيف لنا أن نودع حاكورة مسائية صغيرة، ملقاة خلف بيت «العقد»، جوف حقيبة، نحملها، ثم نلقي بها بين بيارات المنافي»
فمن دونها لن نقوى على تعليق ظلّ صغير في عنق الظهيرة، أو نضيف غصن زيتون جديد إلى شجرة.
فآثرت الصمت.
لكنه عاد ليستفز هدوئي عن غير قصد، ويقول: في الغربة، سوف لن تفرق بين السماوات، فطعم الهواء واحد، وماء الأرض لن يرويك.
عندها خرجت عن طوري، وصرخت، بأنني أعلم. وبأنني كنتُ هناك، بين «يافا» و»رام الله»، وعدتُ، بلا تذكار.
وبأن الغربة تصادر تذكاراتنا العتيقة عند بوابة الرجوع. تسلبنا زجاجات عطر البيارات ومناديل عرق المتعبين من أهلنا، وحفنة الرمل في (صُرَرْ ) الهدايا، وأيقونات رخيصة لجدّات رحلنّ بعيدا.
لم أضف، ولم يعقب هو.
ثم افترقنا دون لوم.
وواصلت ترتيب حقائبي وحدي، قبيل الرحيل، بعد أن حسمت أمري. وأخذت أحشر حاكورة البيت القديم في داخل إحداها بإصرار وعناد. رحت أستعيد ما فاتني من كلام الشاعر، وأردد عاليا مقولة الجدة، وما هو مخطوط على بوابة الغياب من تعاويذ:
كل شيء يطاله الحلم، الا اعتدال الملامح في الظل، وما خلفته سنواتك المرّة في الغياب.
ثم غبت في الرحيل.. على نية السفر.