Thursday 28th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    26-Mar-2020

كورونا في إيران: عامل رجال الدين

 الغد-مهدي خلجي* – (معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى) 9/3/2020

في 19 شباط (فبراير)؛ أي قبل يومين من إعلان الحكومة الإيرانية رسمياً عن وصول فيروس كورونا إلى البلاد، توفي رجل أعمال مصاب بالفيروس كان قد عاد مؤخراً من الصين إلى قم. ويبيّن مكان وفاته وتوقيتها كيف لعبت المدينة الشيعية المقدسة والزعماء الدينيون والمؤسسات الدينية الذين يعتبرونها موطنهم دوراً كبيراً في الانتشار السريع للمرض بشكل غير متكافئ داخل إيران مقارنة بالدول الأخرى. كيف حصل ذلك، وما هي تداعياته على الوضع الراهن للمؤسسة الدينية وعلاقتها بالنظام وابتعادها عن شريحة كبيرة من المجتمع الإيراني؟
من أزمة إلى أزمة
ضرب الوباء إيران في أسوأ وقت ومكان. فقد برز بعد أزمتين محليتين كبيرتين -حركة احتجاجات البنزين التي انطلقت في تشرين الثاني (نوفمبر)، وإسقاط الجيش طائرة مليئة بالمواطنين الإيرانيين في كانون الثاني (يناير)- وقبل الانتخابات البرلمانية في شباط (فبراير). وفضلاً عن ذلك، شكّلت قم نقطة انطلاق الفيروس، وهي العاصمة الإيديولوجية والمركز الروحي للمسلمين الشيعة في جميع أنحاء العالم -بمن فيهم العديد من حاملي المرض المحتملين من الصين.
بالإضافة إلى دعمهما لبيئة عامة من عدم الاستقرار، دفعت الأزمتان اللتان سبقتا الفيروس بشريحة كبيرة من الإيرانيين إلى التشكيك الفوري ببيانات الحكومة وإحصاءاتها واستراتيجيات احتوائها للفيروس. فمن رفض النظام الاعتراف بعدد المحتجين الذين قتلهم (أكثر من 1.500 وفقاً لوكالة “رويترز”)، وتنصله من مسؤولية كارثة إسقاط الطائرة، ومعاملة عوائل الضحايا بشكل سيئ، وصولاً إلى إظهار اللامبالاة حيال الإقبال المنخفض تاريخياً خلال انتخابات الشهر الماضي، رسّخ هذا النظام من دون قصد مستوى أعمق من انعدام الثقة في أوساط الشعب. ولا يشمل هذا الشعور كفاءة القيادة في أوقات الأزمات فحسب، وإنما التزامها بواجباتها القانونية ومبادئها الأخلاقية أيضاً.
من بين التداعيات العملية لانعدام الثقة تجاهل المواطنين للتوصيات الصادرة عن المؤسسات السياسية والدينية قدر استطاعتهم، وإصغاؤهم بدلاً من ذلك إلى حدسهم الخاص أو استشارتهم مصادر بديلة. وعلى سبيل المثال، رفض الآباء، في طهران وغيرها من المدن، إعادة أبنائهم إلى الدراسة بعد أن قررت الحكومة إبقاء المدارس مفتوحة.
 
“الجنة المقدسة” تصبح مركز تفشي الفيروس
لم تكن العاصمة أو المراكز السياحية نقطة تفشي الفيروس في إيران، وإنما مدينة قم غير الجذابة للكثير من الناس نظراً لموقعها في وسط الصحراء وبيئتها الاجتماعية المتشددة. وكانت الصفة الدينية التي تتمتع بها المدينة -“عش آل محمد ومأوى شيعتهم”- تهدف إلى طمأنة المؤمنين في جميع أنحاء العالم بأنها محصنة ضد الأوبئة وغيرها من الكوارث. وبالفعل، يبدو أن اقتناع الشيعة بمناعة قم ضدّ الكارثة راسخاً بقدر إيمان المسلمين الأوسع بمكة المكرمة والمدينة المنورة.
سبق وأن تعرضت قم للدمار مراراً وتكراراً وتمّ إخلاؤها على مرّ القرون بسبب الصراعات البشرية والكوارث الطبيعية على حد سواء. وعلى سبيل المثال، تسببت المجاعة الكبرى في الفترة 1870-1872 بتراجع عدد سكانها بنسبة 30 في المائة. غير أن قدرتها على الصمود والنهوض من جديد أسهمت فقط في ترسيخ صورتها الأسطورية في أذهان المؤمنين -وهي قناعة لا تنبع أصولها من تفاني المصلّين الفرديين فحسب، بل من شبكة معقدة من الثيولوجيا والمؤسسات الاجتماعية والموارد المالية، وكذلك علاقات القوة السياسية التي يعيشون فيها. وإذا ثبتت صحة التقارير الأولية حول انتشار فيروس كورونا، فإن مكانة قم بصفتها العاصمة الإيديولوجية للثورة الإسلامية قد أسهمت في جعلها مركز انتقال العدوى إلى سائر المناطق الإيرانية وسبع دول أخرى على الأقل.
توفر القرارات غير المسؤولة بشكل خطير التي اتخذتها السلطات بشأن التدابير الوقائية في قم نافذة على توجه النظام نحو تصديق الأساطير من الناحية الدينية. وقد عارض كل من المرشد الأعلى علي خامنئي والمؤسسة الدينية التي يديرها التوصيات الطبية التي قدمتها لهما وزارة الصحة، بما فيها دعوات لإقامة محاجر صحية في قم. ومالوا إلى تبرير مقاومتهم بالإشادة بالمناعة الإلهية للمدينة، حتى أنهم ذهبوا إلى حدّ تشجيع الناس على زيارة حرم فاطمة المعصومة المحلي والصلاة لشفاء المرضى بأعجوبة. وعندما أصرّ مسؤولو الصحة على فرض حجر صحي على الحرم نفسه، انضم محمد سعيدي -المشرف على عتبة السيدة فاطمة وأبرز ممثل ديني لخامنئي في قم- إلى السلطات الدينية الأخرى في رفض القرار، مما أدى إلى تأخير كبير في تطبيق التدابير الوقائية الضرورية.
فضلاً عن تفاقم مشاعر الناس بالهلع والغضب، من المؤكد أن تؤدي هذه التطورات إلى توسيع الفجوة الثقافية بين المؤسسة الدينية وسكان المدن المثقفين من الطبقتين الوسطى والمتوسطة العليا في إيران. وفي الأعوام الأخيرة، أسهمت المشاحنات القائمة منذ وقت طويل بين رجال الدين الشيعة والطاقم الطبي في تغذية منحى كان هامشياً في السابق: رفض الطب الحديث من دون مساومة، والترويج لـ”الطب الإسلامي” باعتباره العِلْم الحقيقي المستلهم من المعرفة الإلهية. وقام مسؤولو النظام بالترويج لـ”الطب الإسلامي” بشكل منهجي بالتوازي مع الرعاية الطبية الحديثة، على الرغم من أن العبارة لم تستحدث منذ وقت بعيد وتفتقر إلى أي تقليد تاريخي أو شرعية تاريخية عميقة.
كما أن الجانب السياسي لمعارضة رجال الدين فرْض حجر صحي على قم يستحق الذكر: وبشكل خاص، فكرة أن “أيادي العدو الخفية” كانت وراء التوصيات الصحية الطارئة الصادرة عن مجلس الوزراء. وكما ذكر سعيدي في خطاب ألقاه في 22 شباط (فبراير)، فإنه “لا أحد يسمح للعدو بتصوير قم على أنها مدينة غير آمنة؛ إن هزيمة قم هي حلم ترامب الخائن ومرتزقته المحليين، لكن هذا الحلم لن يتحقق حتى في قبرهم… الآن أصبح واضحاً أن هذا الرجل الخبيث والقذر والشيطاني (ترامب) استهدف قم كونها حرم آل محمد ومهد الثورة الإسلامية وملاذ شيعة العالم… وموطن أولئك الشجعان والأبطال والمخلصين للمرشد الأعلى. إنه (ترامب) يريد أن يجعل من فيروس كورونا ذريعة لضرب مكانة قم الثقافية”.
المسلمون الصينيون والعولمة الشيعية
تسلّط الأزمة الحالية الضوء على النطاق المذهل من العولمة الذي وصل إليه رجال الدين والمجتمع الشيعي في ظل الجمهورية الإسلامية. ولم تكن هذه العملية لتتبلور بهذه السرعة (إذا تبلورت من الأساس) من دون صعود عناصر من القيادة الدينية إلى السلطة السياسية ونفاذها إلى الثروة الوطنية. ففي حقبة ما قبل الثورة، كان عالم رجال الدين منغلقاً وهادئاً -وهي صفة قوّضت إلى حدّ كبير أنماط السفر المحلية والدولية للشخصيات الدينية الفردية، من بين تأثيرات أخرى. لكن الثورة فتحت الباب أمام مجال لا حدود له وبشكل لا يمكن تمييزه أمام رجال الدين، ولا يقل حجمه عن مساحة الكرة الأرضية.
اليوم، تعد جامعة “المصطفى” إحدى أغنى المؤسسات في قم وأهمها، وقد بناها خامنئي ويتولى إدارتها، ولها عشرات الفروع داخل إيران وخارجها. وفي صفوف طلابها الذين يفوق عددهم الأربعين ألفاً، هناك العديد من الأجانب الذين لا يعتبرون طلاباً دينيين فحسب، بل مبشرين ضمن قوة الحملة الإيديولوجية للنظام. ووفقاً لرئيس “جامعة مشهد للعلوم الطبية”، محمد حسين بحريني، يُعزى معدل انتشار فيروس كورونا المرتفع في إيران -جزئياً على الأقل- إلى وجود 700 طالب ديني صيني في قم، مما يشير إلى أن بعضهم قد يكونوا حاملين الفيروس. وكما هو متوقع، نفى المسؤولون الدينيون ادعاءه على الفور واستبعدوا احتمال وجود أي علاقة بين الفيروس والطلاب الدينيين الصينيين في المدينة.
وتستضيف مدينة قم أيضاً عدداً كبيراً من العمال الصينيين، ربما يفوق بكثير مجتمع رجال الدين. ولا تنشر الحكومة إحصائيات موثوقة حول آلاف المواطنين الأجانب المقيمين في إيران، وخاصة في قم، إلا أن السكان الصينيين في المدينة هم بلا شك مسلمون، إن لم يكونوا من الشيعة.
تزعم مصادر إسلامية أن عدد المسلمين في الصين يناهز 40 مليون شخص، نحو أربعة ملايين منهم من الشيعة (معظمهم من الإسماعيليين أو الاثني عشرية). ويتركز القسم الأكبر منهم في المنطقة الشرقية من سنجان (شينجيانغ) التي تضمّ شريحة سكانية كبيرة من الإيغور. ولطالما عانى الكثير من المسلمين الصينيين من القمع المنهجي والاضطهاد والتمييز، وحتى الإقصاء، من قبل الدولة الصينية. غير أن إيران ودولاً أخرى ذات أغلبية مسلمة ترفض عموماً انتقاد بكين علناً على ارتكاب مثل هذه المجازر أو تقديم دعمها السياسي للضحايا، وتمنح الأولوية عوضاً عن ذلك لعلاقتها مع الحكومة على المبادرات الإسلامية.
وفي الوقت نفسه، وجدت طهران سبلاً أخرى لممارسة النفوذ في أوساط المسلمين الصينيين. وتمشياً مع سياستها العامة لتصدير الثورة، تشمل هذه الآليات القيام باستثمارات دينية في المناطق الإسلامية من الصين، وبناء شبكات من النخب الموالية لإيران، ونشر نسختها من الإسلام الشيعي ضمن المجتمع الإسلامي الصيني الأكبر. وتشير تقارير غير رسمية إلى أن النظام الإيراني قد سهّل دخول المسلمين الصينيين غير المسجلين بهدف الخضوع لتدريب إيديولوجي في قم، حيث يعود بعضهم إلى وطنهم كمبشرين مموّلين من النظام.
لكن الوجود الصيني في قم يتخطى مستوى السكان بكثير. ويزور المدينة حوالي 2.5 مليون سائح أجنبي سنوياً، بمن فيهم الآلاف من الصينيين. وقبل ستة أعوام، بدأت المراكز الدينية في قم بتعليم اللغة الصينية، وقد توسّعت هذه البرامج منذ ذلك الحين لتشمل حوزات علمية في أصفهان ومدن أخرى. ومن بين الجهات الدينية التي تستقبل الآن طلاباً صينيين “معهد الإمام الخميني للبحوث العلمية” برئاسة آية الله محمد تقي مصباح-اليزدي.
التداعيات على السياسة الأميركية
على المدى القريب، يجب على المسؤولين الأميركيين استخدام محطات الإذاعة والتلفزة الحكومية، ووسائل التواصل الاجتماعي والتصريحات العلنية وغيرها من المنافذ الإعلامية، لنشر معلومات دقيقة حول وضع فيروس كورونا في إيران: على سبيل المثال، كيف وصل الفيروس إلى البلاد، وكيف انتشر من قم إلى المدن الأخرى، وكم بلغ عدد الإصابات المسجلة، وكيف استجاب النظام ورجال الدين له. وكذلك، عليهم التفكير في سبل فعالة لمواجهة الكميات الهائلة من المعلومات الخاطئة والمضللة المرتبطة بالفيروس والتي يتمّ نشرها عبر مختلف شبكات التلفزة والإنترنت، حيث سارع النظام والمعارضة على حد سواء إلى تسييس القضية لأغراض معاكسة. ومع ذلك، عليهم تجنب انتقاد المؤسسات الدينية مباشرة أو إثارة هلع الناس بشكل إضافي، والسماح بدلاً من ذلك بنشر الوقائع كما هي.
على المدى الطويل، يجب أن تساعد الأزمة على تذكير واشنطن بأن رجال الدين يخضعون بالكامل لخامنئي، وبالتالي لا يجب اعتبارهم قناة بديلة للتواصل أو جهة فاعلة مستقلة محتملة إذا عمّت الفوضى في الجمهورية الإسلامية. ومنذ الثورة، حرص النظام باستمرار على إخضاع المؤسسات الدينية في إيران، مجرداً إياها من استقلاليتها التقليدية ومسهلاً انتزاع الصلاحيات متعددة الأبعاد والمتجذرة التي كانت تتمتع بها في الماضي. وفي المقابل، شهدت هذه المؤسسات نمواً هائلاً في ثرواتها، وفي الإجراءات البيروقراطية التي تطبقها، وفي الوظائف التي تشغلها في الدولة. وقد جعلها تعويلها على الأموال الحكومية والأعمال الخاصة أقل اعتماداً على جمع ضرائب دينية مباشرة من الناس -لكنه أبعدها أيضاً عن المجتمع، وكشف ضعفها الفكري، وقضى على مكانتها الماضية باعتبارها الوسيط الحصري للتعليم الديني والقيادة المجتمعية.
 
*عالم شيعي بعلم اللاهوت، تلقى تعليمه في قم، وهو زميل “ليبتسكي فاميلي” في معهد واشنطن.