Friday 26th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    01-Jun-2017

عن اللغة والمعرفة - ابراهيم العجلوني
 
الراي - فارق اللغة مقتصر على الدلالة والاشارة. وقد يمتد إلى نمط العلاقة بين الأشياء على نحو ما يَرَاها أهل هذا اللسان أو ذلك، ثمّ إلى أسلوب اللغة ونحوها الخاص بها، او منطقها الداخلي الذي تتميز به عن غيرها.
 
أما أن يُعتبر فارق اللغة فارقاً معرفيّاً، فتلك دعوى عريضة داحضة الحجّة ما لم تستظهر بشواهد لا نملُك لها دفعاً. وذلك ما لا يستطيعه دُعاةُ الاستعلاء العِرقي الذين يربطون النفوذ الاستعماري بدعوى تفوق اللغة، ويحتجون بالدبابة والصاروخ على أهلية الثقافة.
 
والذي يثير هذه القضية أنّ بَعْضَنا لا يبلغُ محصولُهُ من هذه اللغة الأجنبية أو تلك أكثر من «معجم صغير» يستطيع به تسليك أُموره في مطار دولة ما أو في فندق من فنادقها، ثم لا يتورّع أن يتشادق بألفاظ يحفظها من هذا المعجم، مزدهياً بذلك أيّما ازدهاء، وكأنما قد تحققت له ريادة فكرية.
 
كما يثيرُ هذه القضية أننا يتفق لنا ان نتعرف الى بعض خريجي اللغة الانجليزية (مثلاً) فنسألهم عن شعراء مثل (شكسبير) و(إليوت) و(وردزورث) وعن نُقّاد مثل (ماثيو أرنولد) و(أ.أ. ريتشاردز) أو (فيرجينيا وولف) فلا نظفر منهم بغير الصمت (الذي لا يمكن ان يكون ذهبياً بحال) وغير الاعتذار بأن منهاج اللغة في الجامعة لم يتحدث عن هؤلاء.
 
إن المقصد الرئيس من دراسة اللغة الأجنبية عند هؤلاء هو أن يكونوا «موظفين» لا ان يكونوا «مثقفين». ونحن نعتقد أنه لو توافرت لديهم أسباب الثقافة الذاتية في لغتهم الأم وكانوا قد تمكنوا من معارفها وآدابها وأساليبها، لكان ذلك اقرب سبيل الى ان يحاولوا مثل ذلك مع اللغات الأُخرى. ومَنْ يقرأ سِيرَ شخصيات أدبية من حجم طه حسين وعباس محمود العقاد ومحمد حسين هيكل وعبدالرحمن بدوي وعبد الغفار مكاوي وزكي مبارك وغيرهم من أعلام النهضة في العصر الحديث يجد أن تمكنهم من العربيّة وادراكهم أسرارها التعبيرية والجمالية قد ذهب بهم إلى العمق نفسه حين قرأوا اللغات الأخرى من إنجليزية وفرنسية وألمانية وغيرها.
 
إنّ اكتناه لغة ما وتمثّلَ منطقها كفيلٌ بأن يكونُ منطلقاً إلى اكتناه مثيل وبالدرجة نفسها لأيّة لغة أُخرى، وإن العجز عن ذلك في اللغة الأم لا يُثمر إلا عجزاً مثيلاً في سائر اللغات. وهو عجز يكشفه التشدّق والإدعاء وليُّ اللسان وينتهي به إلى أن يكون أُضحوكة أو سخرية للساخرين.
 
ولقد يكون مفيداً أن نستذكر هنا أن «ابن رشد» شارح فلسفة أرسطو الإغريقي المعتمد قروناً عند الأوروبيين لم يكن يعرف اليونانية، وأن عقله الكبير قد تمثل المنجز الأرسطي من خلال الترجمات العربيّة التي وجدها أمامه، وأنه انتصر على فارق اللغة بتميّز العقل الذي تكوّن «عربيّاً» لديه، فبقدر ما استبطن لغته وثقافته الأصيلة كان قادراً على مثل ذلك إزاء ما وجده من ترجمات يونانية لأرسطو.
 
ثم إن للمسألة جانباً آخر لا بُدّ أن يلتفت إليه «العربي» على وجه الخُصوص. وهو بالغ ثراء العربيّة، حيث تتجاوز المفردات فيها اثني عشرة مليون لفظة، لنا أن نتصوّر سعة ما يقابلها من معانٍ، في مقابل اللغات الأُخرى التي لا تتجاوز مفردات أكثرها حضوراً المليون ونصف المليون لفظة، بما في ذلك الإنجليزية والفرنسية والروسية والألمانية.
 
وإذا نحن اعتقدنا بما يراه بعضهم من رفض «الترادف» في اللغة، ومن تحقّق الاختلاف – ولو كان ضئيلاً – بين المترادفات، فإن من مقتضى ذلك أن للعربيّة إمكانات كبيرة ينبغي لنا الإفادة منها.
 
ولعلّ من يقرأ ما جاءَ في الامتاع والمؤانسة لأبي حيّان التوحيدي من حوار حول المنطق الإغريقي والنحو العربي أن يرى إلى جانب من تميّز هذه اللغة الشريفة وأن يأسى في الوقت نفسه يأسى لقصورِ أبنائها المعاصرين، ولما هم فيه من تخبط وتيه وذهول غير مقبول.