Wednesday 24th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    22-May-2020

الحجر الأدبي والترجمة كموضع سينمائي مشوِّق

 القدس العربي-سامح خلف

قد لا يكون الحجر صحياً بالضرورة، وليس الخوف من تفشي فيروس كورونا، أو غيره من الأوبئة والأمراض، هو السبب الوحيد الذي يستدعي فرض الحجر. فثمة حجر من نوع آخر هو الحجر الأدبي الذي يفرضه الخوف من تسرّب العمل قبل نشره.
حول هذا الموضوع، كتبت جوليا ويبستر أيوسو مقالاً في «الغارديان» 30 نيسان/ إبريل 2020، سردت فيه الوقائع المثيرة التي رافقت ترجمة رواية دان براون «الجحيم» التي تُرجمت ترجمة متزامنة إلى عدّة لغات. فكان أن أحاطت بعملية الترجمة إجراءات استثنائية، إلى درجة استحقت معها أن تكون أساساً لفيلم سينمائي فرنسي أطلق في خريف عام 2019. بعنوان «المترجمون» Les Traducteurs من إخراج ريجيس روينسارد.
تبدأ أيوسو مقالها بالحديث عن المترجمة الفرنسية كارول ديلبورتي 37 عاماً، التي طارت في شهر آذار/مارس 2013 إلى ميلانو في إيطاليا في مهمة سرية. ولم يعلم بوجهة سفرها سوى زوجها وابنتيها. وبعد أن سجلّت نفسها في الفندق، سلكت ديلبورتي الطريق المؤدي إلى مبنى عصري مهيب قائم في منطقة صناعية عند مشارف المدينة. وعند وصولها، اقتيدت إلى الطابق الأرضي، حيث جردها حارسان أمنيان من هاتفها وحقيبة يدها ووضعوهما في خزانة مغلقة. ثم دخلت قاعة واسعة جداً وجدت فيها عشرة أشخاص من ستّ دول مختلفة منهمكون في الكتابة على لوحات مفاتيح كمبيوتراتهم. وخلال الشهرين التاليين انهمكت ديلبورتي، ضمن أجواء بالغة السريّة، في ترجمة رواية «الجحيم» التي لم تكن قد نُشرت بعد، وهي الرواية الرابعة من سلسلة روايات الشخصية الشهيرة روبرت لانغدون للمؤلف الأمريكي الشهير دان براون.
يروي فيلم «المترجمون» قصّة تسرّب عشر صفحات من الرواية فيُعطى المترجمون مهلة محددة ليعثروا بأقصى سرعة، وبكل وسيلة ممكنة على مصدر التسريب. هذا في الفيلم، أمّا في الواقع فكانت مهمة الأحد عشر مترجماً، هي الحرص على الصدور المتزامن للرواية في جميع أنحاء العالم. والموقع السريّ الذي وجدت المترجمة ديلبورتي نفسها فيه هو مقرّ دار النشر غروبّو موندادوري، وهي دار النشر الأكبر في إيطاليا. وقد انتقلت الدار إلى هذا المبنى عام 1975، وهو مبنى ذو تصميم فريد من نوعه صمّمه المهندس المعماري البرازيلي أوسكار نيماير، وهو عبارة عن هيكل خرساني، مكوّن من سلسلة من الأقواس المنحوتة والنوافذ السوداء، ينبثق من وسط بحيرة مساحتها عشرون ألف متر مربع. وبخلاف ما ظهر في فيلم روينسارد، لم يكن «المخبأ» الذي عمل فيه المترجمون شديد الفخامة مثل ملاجئ يوم القيامة. كان عبارة عن قاعة مؤتمرات واسعة، مزودة بآلة لصنع القهوة وثلاجة وميكروويف وطابعة. وعلى الرغم من كونه قبواً تحت سطح الأرض، تتذكر ديلبورتي أنه كان مريحاً مع وجود نافذتين كبيرتين، يأتي منهما بعض الضوء الطبيعي، بالإضافة إلى تلك الأعلام الصغيرة التي وُضعت على المناضد، والتي تشير إلى اللغات المختلفة: الإسبانية، الإيطالية، الفرنسية، الألمانية، البرتغالية والكاتالونية، وهو أمر يذكّر بمسابقات الألعاب الأوليمبية، كما قالت ديلبورتي.
وفي حين عمل بعض المترجمين فردياً، عالج أغلب الباقين منهم الثلاثة آلاف صفحة من صفحات المخطوطة زوجياً. وقد عملت ديلبورتي، التي وظّفتها دار النشر الفرنسية JC Lattès، مع دومينيك دوفريه،والذي سبق لها وأن ترجمت معه بعض الكتب الأخرى الأكثر مبيعاً. «يحتاج المرء إلى أناس أقوياء نفسياً»، قالت ديلبورتي، وأضافت: «فالعمل في مخبأ لمدة شهر ونصف الشهر تجربة غير عادية أبداً».
وحسب المقال فإن الهدف من تلك الاحتياطات الأمنية هو الحيلولة دون حدوث تسرب كارثي، وتجنب ما حدث للمؤلفة الأمريكية الشهيرة ستيفاني ماير قبل سنوات حين تسربت مسودة غير مكتملة من كتابها الخامس ضمن سلسلة مصاصي الدماء، «شمس منتصف الليل». لذلك فإن حراس الأمن لم يفارقوا أبداً مدخل مخبأ المترجمين، حسب كاتبة المقال. ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل قُطع الاتصال بالإنترنت ومنعت الكمبيوترات المحمولة من مغادرة القاعة. لكن ما العمل حين يضطر المترجمون إلى البحث عن المعلومات على شبكة الإنترنت، وهو أمر لا بدّ منه عند ترجمة أعمال دان براون؟ اضطر المترجمون إلى استخدام أربعة كمبيوترات مشترَكة ومتصلة بالإنترنت وتدوين ملاحظاتهم على الورق. ليس هذا وحسب، بل كانت النصوص الإنكليزية التي أعطيت لهم تؤخذ منهم في نهاية اليوم وتوضع في خزائن مقفلة وآمنة. وفوق ذلك كله، كان الذهاب إلى الحمامات يتم برفقة الحراس الأمنيين وتحت مراقبتهم.
 
في فيلم «المترجمون» يتحول المترجمون، إلى محققين يسعون إلى العثور على المصدر الذي تسرّبت منه أجزاء الرواية. أما مهارات الترجمة التي تتمتع بها المترجمة ديلبورتي وزملائها فلم تحظ بالتركيز الذي تستحقه في الفيلم.
 
وزيادة في الاحتياط، قالت كاتبة المقال، إن المترجمين تلقوا أوامر صارمة بعدم التحدث إلى أحد في الكافيتريا حول طبيعة عملهم، وحُذّروا على وجه التحديد من التحدث إلى العاملين في دار موندادوري، باعتبار أن بعضهم من الصحافيين. وتنقل الكاتبة عن مدير التحرير في الدار فرانشيسكو أنزيلمو قوله إن الدار تعهدت بعدم وضع نصوص الكتاب في متناول أحد أبداً خارج قاعة الترجمة.
وتمضي أيوسو في الحديث عن الإجراءات التي اتّبعت في قاعة الترجمة، مثل بروتوكول التواصل مع المؤلف دان براون الذي يتم من خلال لوحة بيضاء كبيرة عُلّقت في أحد أركان القاعة ليكتب عليها المترجمون أسئلتهم، التي يودّون توجيهها للمؤلف، ليصار بعد ذلك إلى تمرير تلك الأسئلة إليه. وكان المترجمون يطرحون على المؤلف أسئلة غريبة، مثل، هل تتوافق ساعات العمل في السوق مع الوقت الذي جرى فيه الحدث؟ وهل يمكن إطلاق النار على شخص ما مِن تلك الزاوية على السلالم؟ «لا بدّ وأنه كان يقول لنفسه: هؤلاء المترجمين مجانين» تقول المترجمة ديلبورتي، وتضيف: «لكننا كنا، بطريقة ما، أول قرائه».
وهذا الحجر الأدبي، تقول كاتبة المقال، لم يجرِ في إيطاليا فقط، بل طُبّق مثله وفي الوقت نفسه في لندن، حيث خاض المترجمون الهولنديون والنرويجيون والسويديون والدنماركيون والأتراك تجربة مماثلة في الطابق السفلي من مبنى دار النشر ترانسورلد ببليشرز. وحول تلك التجربة تنقل كاتبة المقال عن المترجمة التركية بيتيك ديمير إينيك قولها: «كان لدينا كل ما نحتاجه، باستثناء الاتصال بالإنترنت». وقالت المترجمة التركية إنهم وقّعوا على اتفاقية تتضمن شرطاً جزائياً بمبلغ طائل يدفعه المترجم، إذا أخبر أحداً عن طبيعة عمله. وحول سبب توزيع المترجمين ضمن مجموعتين منفصلتين، يقول فرانشيسكو أنزيلمو، مدير التحرير في دار موندادوري، إنه كلّما قلّ عدد الأشخاص في القاعة انخفضت إمكانية حدوث تسرّب.
وهذه العملية الدقيقة والمحكمة التي ابتُكرت لترجمة رواية «الجحيم» هي الأولى من نوعها، حسب مقال أيوسو. فقد جرت العادة أن لا تظهر ترجمات روايات داون براون، إلا بعد أن تكون طبعتها الإنكليزية الأصلية قد صدرت في أمريكا واحتلت المراتب الأولى على قوائم الكتب الأكثر مبيعاً. ثمّ يكافح الناشرون الأوروبيون بعد ذلك لإصدار ترجماتهم وطرحها في الأسواق. وهكذا كان الحال مع رواية «الرمز المفقود»، وهي التكملة التي طال انتظارها لرواية «شيفرة دافتشي».
المترجمة أنّاماريا رافّو، وهي عضو في فريق الترجمة الإيطالي في مخبأ دار موندادوري، سبق لها أن اشتركت مع فريق من خمسة مترجمين في ترجمة رواية «الرمز المفقود» خلال أسبوعين فقط. وعن تلك التجربة، تقول أنّاماريا رافّو: «على الرغم من العمل في أقصى سرعة، خسرنا خمسة عشر يوماً. فخلال ذلك الوقت ابتاع بعض القراء النسخة الإنكليزية لأنهم لم يستطيعوا الانتظار».
وفي مقالها الشيّق، تتحدث الكاتبة أيوسو أيضاً عن الوقائع التي رافقت ترجمة رواية «الأصل» عام 2017، وهي الرواية الخامسة للمؤلف دان براون، ضمن سلسلة روبرت لانغدون. وحسبها فإن جميع المترجمين البالغ عددهم ستة وعشرين مترجماً، جُمعوا هذه المرة في برشلونة تحت إشراف دار النشر الإسبانية غروبو بلانيتا. وتنقل كاتبة المقال عن المترجمة رافّو قولها إن الإجراءات الأمنية قد حُسّنت بعد أن جُمع المترجمون الذي كانوا موزعين بين ميلانو ولندن في قاعة واحدة. وشُدّدت الإجراءات الأمنية، فلم يعد مسموحاً لأحد جلب كمبيوتره الخاص، وبدلاً من المخبأ الواقع تحت المبنى، أصبح المكان قاعة بلا نوافذ في الطابق الخامس من مبنى دار بلانيتا، وهي قاعة معزولة تماماً. «في ميلانو كان اسمه المخبأ، أما في برشلونة فيسمى العُليّة»، تقول رافّو.
وعن مفارقات العمل مع مترجمين آتين من بلاد وثقافات مختلفة، تقول المترجمة الفرنسية ديلبورتي إن التجربة كانت بمثابة صدمة ثقافية من ناحية الاتفاق على ساعات العمل. فالقادمون من دول الشمال الأوروبي أرادوا أن يبدأ العمل في الساعة الثامنة صباحاً، في حين كان الشرق أوسطيون يفضلون البدء في وقت متأخر صباحاً والاستمرار في العمل حتى المساء. وكان على هؤلاء المترجمين غير المتفرغين، الذين اعتادوا العمل من بيوتهم، أن يتكيفوا مع نمط جديد من العمل. «لقد جُلبتْ مجموعة من النُسّاك الذين لكلّ منهم عاداته المختلفة، ثمّ وُضعوا في مكان واحد. لذا، كان عملنا معاً غريباً حقاً»، قالت المترجمة الإسبانية كلاوديا كوندي.
وعن النتيجة الإيجابية التي أسفرت عنها جهود المترجمين، قالت كاتبة المقال إن خمسين ألف نسخة من رواية «الجحيم» بيعت خلال أربع وعشرين ساعة حين نُشرت في إيطاليا في أيار/مايو عام 2013. أما في إسبانيا فقد نفدت جميع نسخ رواية «الأصل» على الفور بعد أن طُبعت 600 ألف نسخة من طبعتها الأولى.
في فيلم «المترجمون» يتحول المترجمون، إلى محققين يسعون إلى العثور على المصدر الذي تسرّبت منه أجزاء الرواية. أما مهارات الترجمة التي تتمتع بها المترجمة ديلبورتي وزملائها فلم تحظ بالتركيز الذي تستحقه في الفيلم. وفي تعليقها على ذلك، تقول ديلبورتي: «من المثير للاهتمام أن يُنتج فيلم يدور موضوعه حول مهنتنا. وهذا أمر جيّد لأنه يثير نقاشاً حول عملنا».
تشير أيوسو في مقالها أيضاً إلى أن بيئة العمل التي وُضع فيها المترجمون تتنافى من نواحٍ عدّة مع نمطهم المفضّل في العمل المنفرد خلف الكواليس. وحول هذه النقطة، تنقل عن المترجم اليوناني في الفيلم قوله: «لو كنت أرغب في العمل الجماعي في مكتب مشترك، لما اخترت هذه المهنة بالذات».
وتختتم جوليا ويبستر أيوسو مقالها بنقل آراء بعض المترجمين حول تجربة العمل الجماعي، فتشير إلى أن تلك التجربة خلقت شعوراً بالتضامن بين المترجمين. وحول هذا الجانب من التجربة، تقول المترجمة الإيطالية أنّاماريا رافّو: «عدد قليل من المترجمين يمكنهم الزعم بأنهم عملوا معاً على النصّ نفسه». أما المترجمة التركية بيتيك ديمير إينيك فتقول: «كان أمراً رائعاً أن نتبادل الأفكار». وتنتهي كاتبة المقال إلى القول إن تعاون المترجمين على حلّ المشاكل وشرح المراجع التاريخية والثقافية التي تحفل بها الرواية كان تجربة مفيدة في رأي العديد من المترجمين. أما المترجمة رافّو فتختم بالقول: «كانا شهرين من المعاناة، لكنني مستعدة لإعادة الكرّة غداً».
 
٭ كاتب ومترجم سوري
 
– دان براون، الصورة من موقع المؤلف
– مبنى دار النشر موندادوري، Francesca Simondi