Friday 19th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    04-Nov-2020

(باب للحب.. بابان للألم).. احتمالات لفهم الموت

 الراي-حسام معروف

 
(كاتب من فلسطين)
 
إننا لا نملك معرفة حقيقية عن الموت، سوى أنه لحظة توقف. الإنسان حين يتوقف عن ممارسة كل شيء، فإنه يغيب من المكان والزمان عن جدول مهام الحياة، ويصبح وروده في الحوارات صدفة، ضمن أجندة عشوائية، تعلق في الذاكرة.
 
لكن المشاهد المكررة في الحياة عن التآكل والانزواء والذبول وعدم الإمساك بالبوصلة عند أولئك المنسيين على رف الحياة، الذين تتراكم عليهم طبقات الغبار، هي بمثابة خروج عن سكة القطار، وكأنما موت تمت كتابته لمشروع صناعة إنسان ما، مع وقف التنفيذ.
 
عن هذه الرؤية وما يدور في فلكها من تفصيلات وأفكار، يدور مصنع الشعر لدى الكويتية هدى أشكناني، ليضع لمسة شعرية متفردة، لغة ومضمونا، في مجموعتها «باب للحب، بابان للألم» الصادرة عن دار رواشن للنشر (2018).
 
وهي تقف على باب مصنعها الفني، تقرأ الشاعرة على القارئ ما يكتبه جان بول سارتر: «الإنسان كائن من أجل الموت، أول يوم في حياته هو أول يوم نحو الموت». كأنما هذا طرْقُ باب من خلالها، لتستفز مكنونها الشعري، أو لربما القارئ.
 
وتصطف لغة أشكناني مثل سلاسل مترابطة، لا فراغات ولا حشو فيها، بلا انقطاعات في المعنى. تلك اللغة الحداثية تنتج قصيدة شعرية بتراكيب تدلل على قدرة وتمرس لدى الشاعرة.
 
الشعر في هذه المجموعة يتقلد مهنة مسّاح، يتناول الجزئيات المغمورة والواضحة حول فكرة الانتهاء وما يسبقها من إشارات. كما تكثر الأسئلة الوجودية في نص أشكناني، حتى وإن لم تكن الصياغة على طريقة السؤال. فالعبارة عندها محمّلة بثقل على وشك السقوط، ومحمّلة بالتناقض الذي يخدم منهج الشعر، كأن تدلل على استمرارية حدوث الموت، واستمرار تجاهل أثره، فتكتب قصيدة على هيئة عنوان «أمسح موتي وأبتسم».
 
وفي خطابها للأم التي تأكل أبناءها من جديد، تطرح الشاعرة تساؤلات عن الجدوى مما تفعله الأرض مع الإنسان، بطرحه في الفراغ ثم استعادته، مظهرة تناقضات الحركة الديناميكية المستمرة في الفعل الكوني. تقول الشاعرة في نص «استعادة»:
 
«إلى التي لا تتوقف عن التهام أبنائها..
 
إلى الأرض:
 
هذا جسد ميت،
 
أنجبته في عالم شرير
 
كانت الأشجار وقتها قليلة الضوء
 
لم يكن ثمة أمل في الاستدلال
 
فالمدن الكبيرة تشبه بعضها في الضياع.
 
ولأنك قررتِ ألّا يضلّ الطريق
 
بدأت بالامتلاء به من جديد
 
أيتها الأم المسكينة..
 
لكِ في الحياة،
 
ما لها عليك».
 
وتستكشف الشاعرة في محطة أخرى أداة من أدوات معرفة المرء، حتى وإن كان بلا نظر، فإنه الصوت، بامتلائه، يستفز المعنى داخل الإنسان، ويفتح الطريق نحو المزيد من تفعيل الحواس. هذه الأسلوبية لدى الشاعرة، بتغطية حاسة وتفعيل أخرى، تلمح إلى تفرد كل شخص في خصوصيته، لاكتشاف المتحركات من حوله. تقول في نص «أعترف»:
 
«لا أؤمن بالبصر!
 
أؤمن بالعمى، بالصوت، بالنسيان،
 
كل ما في الحياة مبنيّ على الصوت،
 
الصوت فقط..
 
الصوت الذي يسقط فوق مظلّاتنا، الضوء.
 
يحاصرنا الضوء.. يطوّقنا أكثر،
 
ينبت الخوف تحتنا،
 
حينها نصبح بين وهمَين
 
بياض يستبشدّ بنا،
 
وصراخ الغيمات فوقنا..
 
من ذا الذي يحررنا الآن؟».
 
وتتّبع الشاعرة طريقة ترديد الكلمات في بعض نصوصها، كأن الكلمة الأخرى صدى للأولى، مثل: «الصوت فقط، الصوت الذي يسقط». ففي ذلك موسيقى داخلية للنص، ووضع لإيقاع شعري يشبه التصفيق.
 
وتعود الشاعرة إلى مشاعر الغموض، وعدم وضوح الرؤية حول مستقر الإنسان في العالم الآخر، من خلال عبارات حول حدث الموت، وغياب جسد الإنسان: «كم أحسدهم هؤلاء الموتى، هم يعرفون -بعد موتهم- أين يذهبون». وتقول ايضًا: «أفقي هذا الموت.. لا ينتهي ولا يتوقف». وفي عبارة أخرى، تكتب عن أثر حدث الموت على الإنسان: «نمسح يأسَنا بالمناديل، ونرتجف».
 
نصوص أشكناني تأتي على صيغة ضمير الأنا، في المعظم، وتذهب أحياناً لصيغة الضمير الغائب، وكأنما أصوات أخرى لأناس منسيين كانت تراود القصيدة لديها أثناء صياغة التجربة الشعرية.
 
بينما تتعدد تلميحات الشاعرة لإبهام المعنى الذي تقوم عليه تركيبة الحياة، وتطرح أسئلة جدلية مثل أن تقول: «العالم، مَن العالم؟» و«هل كنت شيئاً؟». وكذلك: «يدور دون توقف!».
 
وتستفز أشكناني خيال القارئ بصور شعرية متباينة الأسلوب، لكنها تذهب في ختام مجموعتها إلى نمط مختلف، حيث الومضات الشعرية المزمومة تركيباً. وبعنوان يورد للذهن مشية الكنغر. فتقول في نص «قفز متسلسل»:
 
«أبدأ لعبة الظل مع العالم،
 
لئلا ينتصر أحدنا
 
هو دون كفن،
 
وأنا بلا أثر».
 
وومضة أخرى:
 
«فليسامحنا الفرح،
 
إنْ قصّرنا قامته،
 
كبيرٌ هو علينا».