Friday 26th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    26-Jan-2017

"الساعة الخامسة والعشرون".. بين ابتسامتين - ماسة الدلقموني
 
الغد- بابتسامة، قابلني أيوهان مورتيز في بداية الرواية. وبابتسامة ودّعني. لكن شتان بين الابتسامتين! الأولى، نابعة من مشاعر جياشة؛ من حالة حب وربما عشق. أما الأخيرة، فنابعة من حنجرة مضغوطة بأصابع خفية جبارة. وبين الأولى والأخيرة حكايات وحكايات يسردها قسطنطين جورجيو بعبقرية لا مثيل لها. ويُقال إنها رواية تُناسب كل الأزمان؛ يُقال إنها أفضل كتاب ظهر بعد "جمهورية" أفلاطون؛ يُقال إنها رواية خالدة تدمغ في ذاكرة كل قارئ: "الساعة الخامسة والعشرون".
لست أعرف كيف أعبر عن هذه الرواية إلا بأن أقول إنها أحدثت فوضى في نفسي؛ جعلتني أستمع إلى عقرب الساعة ليلاً مع أنني نادراً ما ألتفت إليه إلا في حالات الأرق. أستمع له مُتذكّرة نبضات قلب أيوهان مورتيز -إحدى شخصيات الرواية- وهو يصف شعوره مراقبا جسد أعز أصدقائه يترنح ويسقط كالمعطف من دون إحداث أي ضجة! فيتفنن خيالي بنسج صورة له متسمراً هناك؛ لا هو راغب في شيء، ولا هو راغب عن شيء، مدركاً حقيقة أن سر حفاظه على حياته في هذا المجتمع التقني يتمحور حول إتقانه فن الحركة الرتيبة التي لا تفكير فيها ولا إرادة! هذا المجتمع الذي لا بد للفرد أن يدفع فيه ثمن الحياة من عقله وليس من دمه فقط.
لم ألتق في هذه الرواية بشخصيات مغامِرة؛ بل هي شخصيات مرغمة على المغامرة، كما يذكر الكاتب بين سطوره: "مغامرات يعجز أكبر روائيي الإثارة عن تخيل مثلها". ولم ألتق كذلك بأي عبد بشري، بل تعرفت، وعن كثب، على العبد الآلي؛ ذلك العبد الذي يتصرف ضمن قوانين الآلية والمماثلة وإغفال الذات؛ ذلك العبد الذي يخلق مجتمعاً ميكانيكيا يُجبَر فيه العبد الإنساني على التخلي عن أحاسيسه وعلاقاته الاجتماعية ليعيش في مجتمع "برولتياريا" مُنظّم حسب حاجات الأكثرية الساحقة من "المواطنين الآليين". فها هي شخصيات الرواية تعيش في صميم آلة جبارة صماء -لا تسمع ولا ترى- تحت رحمة زر يتعلق بالحرف الأول من أسمائهم، ما إن يتم الضغط عليه، حتى يُعرَّف عنهم بكل المعلومات اللازمة من اسم وشكل وطول ولون، بغض النظر عن أي جانب انساني. وللتعامل مع هذه الآله لا تمتلك تلك الشخصيات إلا أن تنتظر دورها بصرف النظر عن أي ظلم يمكن أن يكون قد مسَّها؛ فالنظام ليس مُعدّاً ليستشعر أو يتفهم، بل هو مبني على مبدأ الإحصاء والشمولية والتعميم، هذا المبدأ الذي يقتل كل إنسان حي في سبيل النظرية والتجريد والخطة، ويمارس عليه الخدعة -كما يصفها الكاتب- الأكثر وحشية والأكثر فظاعة بين كل ما اقتحم يوماً عقل الإنسان من آراء، ليقنعه أنه ينتمي إلى ما يطلق عليه مصطلح "فئة". ذلك النظام البيرقراطي الذي ينافي جوهر الحياة بعناده وتصميمه على أن يفهم كل شيء -حتى بيتهوفن- عن طريق الحسابات الرياضية، غاضّاً الطرف عن فردية الفكر والروح، ساجناً كل إنسان في جسدٍ حيّ، مُميّزاً إياه برقم وبطاقة تتطلب منه الالتزام برموز أربعة تبقيه من دون مساءلة: التهذيب، والطاعة، والعمل، والنظام. أربع سلاسل آلية تزين المعاصم والأقدام. 
ويأتي هذا النظام مدّعياً التحضّر برغم قتلِه لأقانيم الحضارة المأخوذة من اليونان، في حب واحترام الجمال؛ ومن الرومان، في حب واحترام الحق؛ ومن الديانات، في حب واحترام الإنسان... لتُحوّله من إنسان متفرد الكيان والفكر لا يمكن تعويضه، إلى مواطن مطيع يشبه القطيع، يشغل وظيفة مستعدة لاستبداله في أي وقت.
فها هو تريان كورغا مرافق أيوهان في رحلة الظُّلم -بمعيّة الجماعة والنظام- يُحاول بكل ما يملك أن يوقظ الإنسان الذي يقطن ذلك المواطن خلف المكتب؛ ذلك المسؤول عن تطبيق النظام ضمن المعلومات المتاحة لديه، لكن عبثاً! وما إن يفقد الأمل بإيقاظ الإنسان، حتى يتوجه لمخاطبة النظام بكل الأساليب الممكنة؛ من إنشاء قضائي، وإنشاء دبلوماسي، وأسلوب برقي، وأسلوب حسابات التوفير، وأسلوب إذاعي... بلا فائدة. يحاول بلا كلل، رغم إدراكه الواعي أنه برغم تفنن المجتمع التقني بابتداع الرفاهية، فإنه لا قدرة له على خلق الفكر الذي من دونه تندثر العبقرية. وكما يقول الكاتب: "أي مجتمع محروم من رجال عباقرة هو مجتمع محكوم عليه بالفناء".
ابتسم! ابتسم! ابتسم! ابتسم! بهذه الكلمة المعادة يختم الكاتب قصته! طابعاً في ذاكرتي صورة لأيوهان مورتيز وهو يقف في المكتب محاولاً جهده الانصياع لأمر الابتسامة لعدسة الكاميرا بجانب طاولة عليها قطعة من الجلد، تعلوها نظارة تكاد تنطق من هول ما شهدت من أحداث في هذه الراوية التي -ولسنوات عديدة- مُنعت من النشر في أوروبا، ثم عندما نُشرت، أحدثت ضجيجاً لم يحدثه أي كتاب مماثل من قبل، ضجيجاً يتسلل من دون إذن لفكر كل من يقرأها.