Thursday 28th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    19-May-2020

نظرة من أعلى

 الدستور-موسى إبراهيم أبو رياش

 
يجر القط الهرم «أبوسريع» أرجله بوهن، وهو يصعد درج العمارة، يتنازعه القلق والتوتر، فلم يعد أي شيء مفهومًا هذه الأيام. وصل السطح، وجلس على الحافة، يراقب الحارة بعيون حائرة، لا يدري ما أصابها، وما ألمَّ بها؟ الناس خائفون، يغلقون أبوابهم، ولا يخرجون إلا دقائق ويعودون وهم يتلفتون حولهم؛ لكأنهم يتوجسون خيفة من وحش يترصدهم أو بلاء ينقض عليهم، حتى أصحاب الشقة الذين تعودوا أن يطعموه كلما خرمش بابهم، ورفع صوته بالمواء، لم يعودوا يأبهوا به، وأداروا له ظهورهم، كأن لم يعرفوه، ولم يكن صديق أطفالهم يومًا!
 
ينظر «أبوسريع» بأسى إلى سيارة «أبوخالد» التي تعوَّد أن ينام كل ليلة بالقرب من محركها الدافئ، لم تتحرك منذ أربعة أسابيع، فتحول محركها ليلًا إلى ثلاجة، ليست وحدها؛ فكل سيارات الحي لم تتحرك من مكانها، وبقيت محركاتها صامتة بكماء، كأنها ماتت هكذا فجأة دون مقدمات.
 
لا يدري «أبوسريع» ماذا حصل؟ ولا سبب كل هذا التحول الذي لم يشهده من قبل، ولم يسمع به من أسلافه؟ لا يستطيع أن يسأل، ومَنْ يسأل؟ والناس يتجنبونه، بل يتجنبون بعضهم بعضًا، ويحيد كل منهم عن طريق الآخر، وقد كانوا من قبل يتعانقون ويتجالسون ويتحادثون.
 
يلمح «طارق» الصغير متجهًا إلى بقالة «أبو رياض»، لقد كان يلاعبه كلما رآه، وأحيانًا يشتري له علبة لبن صغيرة، أو يصحبه إلى بيته القريب فيقدم له طعامًا لذيذًا شهيًا. ولكنه يتجنبه الآن، ويفر منه، ولا يلتفت إليه إلا ليبتعد عن طريقه. ما الذي جرى يا «طارق» الحبيب؟ أي عين طرقتكم؟ وأي داهية أصابتكم؟
 
يشاهد من بعيد القطة «سماهر» التي كانت تتجنب الجميع خوفًا، ولكنها الآن تتمشي وسط الشارع تتبختر، ولا تهاب أحدًا، تمشي مطمأنة إلى مقصدها دون أي عائق، «ويحك يا «سماهر»، لا تخافي، ولكن ليس إلى هذه الدرجة من الطيش والحماقة، فلا أظن أن هذا الصمت المريب، والخوف العجيب سيطول، فادخري لأيامك القادمة، ولا تقطعي حبال الوصل».
 
وحتى يكون «أبو سريع» موضوعيًا، فقد أقرَّ أن ما حدث ويجهله، قد أراحه من وجوه السوء التي كانت تؤذيه في الحارة؛ فلم يعد يشاهد «طحيش» الذي كان يقود سيارته «العواية» بطيش وسرعة ترعب الكبار والصغار، وتجعله هو «أبو سريع» في حيص بيص، يختبئ في أقرب زاوية بعيدًا عن خط سيره الأهوج. كما أنه استراح من رؤية «السطل» الذي كان يعود قبيل الفجر متعتعًا من السكر، يسب ويشتم بصوت مرتفع، وألفاظ قذرة، حتى تخرج أمه العجوز المسكينة وتدخله البيت وهي تبكي بحسرة وحرقة. أما «دحدول»، فقد خمد في بيته، ولم يعد يخرج، بعد أن كان يمشي متبخترًا متجبرًا يزلزل الأرض تحت أقدامه الضخمة«يا أرض انهدي ما عليكي قدي»، ويرفع يده بين الحين والآخر مهددًا متوعدًا، ولا يعتق أي أنثى من نظراته الوقحة السمجة. وعلى ذكر الأنثى، فقد حمد «أبو سريع» ربه أنه لم يعد يرى «زعبورة أم كشة» التي كانت ما إن يضربها زوجها حتى تخرج إلى الشارع، تنكش تاريخه وتاريخ أهله وعائلته لسابع جد، وتنشره على حبل بامتداد الشارع، وقد يطول أحيانًا.
 
يغيب «أبوسريع» في وصلة تفكير مضنية، فما يحدث غير مفهوم، وغير معقول، يضرب رأسه بيده اليمنى، علَّه يعيد النشاط إلى عقله، فيسعفه بتحليل منطقي لما يحدث، فلا يزداد إلا غموضًا على غموض. وكان أكثر ما يغيظ «أبوسريع»، صوت العفريت الذي ينطلق فجأة آخر النهار في وصلة نواح ثكلى أو عواء ذئب جريح، مما يتسبب في حالة ذعر شاملة لكل من يمشي في الشارع، فيسارعون إلى بيوتهم فزعين لا يلوون على شيء. «أبوسريع» يعرف من خبرته وأحاديث أسلافه أن هذا الصوت ينطلق للخطر، ولكن أي خطر حدث؟؟ لأسابيع أربعة لم يشاهد أي عدو، ولم ينطلق أي صاروخ، ولم تحلق في الجو طائرة حربية، ولم تسر في الشوارع أي دبابة أو مصفحة عسكرية، اللهم إلا سيارة شرطة يراها مرة كل يومين. وهو يحلل الوضع توقع غزو الجراد، ولكن لا يعقل أن يستمر ترقب ذلك لأسابيع أربعة. أم هو تسونامي؟ ولكن لا بحر قريب يُخاف من أمواجه القاتلة. قد يكون زلزالًا متوقعًا، ولكن هذا مستحيل، فالزلازل تحدث فجأة دون توقع أو تنبؤ. إذًا ما الأمر؟ ما الأمر يا «أبوسريع»؟؟ يضرب رأسه عدة مرات، مرة باليد اليمنى، ومرة باليد اليسرى وبالتناوب. يسعى «أبوسريع» أن يساعد الناس الذين يحزنه أمرهم، ويشفق عليهم مما هم فيه من حيرة وقلق وخوف، ولكن يجب أولًا أن يعرف جليَّة الأمر، وسبب كل ذلك، يجب أن ..... وهنا انطلق صوت العفريت، فدبَّ الذعر في جسم «أبوسريع»، وانطلق مسرعًا يختبئ تحت خزان مياه، ترتجف أوصاله، وتصطك أسنانه، ويكاد قلبه يقفز من صدره رعبًا، في حالة يومية، يعاني منها طوال وصلة صوت العفريت، ولا يعود إلى طبيعته إلا بعد ساعة أو أقل قليلًا.