Wednesday 8th of May 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    06-Nov-2020

«رسائل إلى كارلا» بين الغربة والاغتراب

 الدستور-مفيدة جاء بالله/ عُمان

 
اجتمعت كل المعاجم في تعريف كلمة الغربة على أنها ابتعاد عن الوطن، سواء كان ذلك طوعا أو قسرا، أما الاغتراب فهو تلك المشاعر التي يعايشها الإنسان عند ممارسته لفعل التغرب خارج وطنه أو داخله.
 
فكيف تواطأت الغربتان لإنتاج هذا النص؟
 
«رسائل إلى كارلا» للتونسي الأمجد بن أحمد إيلاهي عشرون رسالة موجهة إلى امرأة أوروبية تدعى كارلا، كما هو باد من العنوان، فالكتاب رسائل فريدة من نوعها تلامس الوجدان، ذلك أنها كتبت بخصائص جمالية وتعبيرية لم يكن اختيارها مجرد صدفة، وإنما هي نتاج وعي بواقع محبط بسبب حالة من الاغتراب، تزامنت في بعض الفترات مع غربة فعلية تركت ملامحها هي أيضا في هذه الرسائل.
 
فكيف استأنس الأمجد إيلاهي بطاقاته اللغوية، والصور الشعرية، حتى تتبلور لنا في شكل عمل أدبي مميز أنتج «رسائل إلى كارلا»؟
 
في استهلال الكتاب، الذي صدر عن (الآن ناشرون وموزعون في عمّان)، والذي قدّمه الأستاذ نصر سامي، أشار الكاتب إلى أن الفترة الزمنية التي كتب فيها الكتاب هي المدة التي كان يستوطن فيها صحراء الربع الخالي، هذا الفضاء كان آخر الأمكنة التي استوعبت حضوره الجسدي، فقبلها لم يعرف الأمجد طعم الاستقرار، فهو بحكم ولادته في منطقة الصخيرات الريفية، كان لزاما على هذه المنطقة أن تلفظه خارجها هي وكامل المدينة، فروحه المشبعة فطريا بحب الرسم والكتابة، كانت أشسع من أن تسجن في إطار ضيق هو مدينة القصرين، تلك المدينة التي كانت أوفر المدن حظا من التهميش واللامبالاة سواء قبل الثورة أو بعدها، إذ كان لزاما على الشاب الريفي المفعم بطاقة الرفض لما هو ضيق ومحدود، أن يرحل إلى عوالم أخرى، يقول في الرسالة السادسة التي اختار لها عنوان « ورغم هذا أتيت»: «واليوم ذكرى مولدي، هكذا قالت الوالدة وهي تضع أصابعها مشطا من العواطف داخل شعري».
 
«كنت أضرب بطن أمي مطالبا بحقي في الحياة هناك أين اللاأحد».
 
يقول في الصفحة التاسعة والثلاثين من الرسالة السابعة: «والحق أني ولدت على حافة البلاد (حدود). وترعرعت هناك. كنا قلة قليلة بدون ماء ولا كهرباء. ولم يكن يسمح لنا بالتذمر مطلقا. ولما توغلت داخل مدن البلاد تهت! ... سافرت وتغربت».
 
فالغربة هي قدر الكاتب الأمجد، وقد بدا ذلك جليا في نصوصه، فكان من الممكن أن تأتي هذه النصوص على شكل نص موحد وذلك لتواجد خيط سرد يمكن تتبعه، ولوجود راو بيّنٍ داخل الكتاب رغم محاولته التخفي داخل لغة شعرية مرهفة وصور تبدو في ظاهرها متقطعة بتقطع الرسائل واختلافها، غير أن المتمعن فيها يلحظ أن النصوص يربطها ببعضها نفس الوعي ونفس القسوة التي مارسها العالم تجاه الكاتب الذي لم يستوعبه مكان محدد، فهو يرتحل بين أقطار عربية، ويعود إلى تونس إبان الثورة، ثم ما يفتأ يعاود الرحيل، ذلك أن الغربة المكانية هو قدره الذي أنتجته ظروف إجتماعية قاهرة ملازمة له ومتلازمة، ومنتجة لفعل الغربة ومن ثم الاغتراب، ففي رسائل كارلا لم يكونا مجرد محفز للكتابة، بقدر ما كانا وعيا وفلسفة وعاها الكاتب على ما يبدو قبل وعيه بقدرته على فعل الإبداع الجمالي للكتابة أو ممارسة الرسم.
 
بتتبع خيط السرد داخل الرسائل، سنجد الراوي يصور بلغة شعرية بعض المواقف والأحداث التي تتأتى من ماضيه السحيق، والتي تنبئ بوعي عميق لا يتماشى وسن الكاتب الفعلية، ولكنه يتماشى مع ذات واعية بتفردها داخل عالم يتماهى ويتشابه ويسير في اتجاه واحد هو اتجاه القطيع، يقول في الصفحة الحادية والثلاثين: «الأطفال طيبون طالما يشاهدون الصور المتحركة. أنا، لم أفعل ذلك مطلقا. روحي كانت أكبر من عمري بكثير. يحدث أن يولد الإنسان بروح أكبر من عمره بكثير!»
 
فالغربة في حياة الأمجد بدأت باكرا قبل اكتمال نضجه الجسمي والفكري، يقول في الصفحة التاسعة والثلاثين: «وأنت تسألين عن مزاجي السيئ، أجبتك اليوم. والحال ليست مرتبطة بالأمزجة بقدر ما هي مرتبطة بالمنشأ والنشأة الأولى». والحال أن الإنسان ابن بيئته، فالذات ابتدأ اغترابها قبل بداية غربتها، وكان كل من الغربة والاغتراب فادحين قادحين لبعضهما البعض، أنتجا محاولات للفرار من هذا القدر المحتوم، فاختار الكتابة منفذا حيث يقول في الصفحة الحادية والأربعين: «أكتب لأتخلص من ثقل هذا الجسد المشدود إلى الأسفل».
 
إن إدراك الذات في «رسائل إلى كارلا» جاء تتويجا للحظات اغتراب قسرية، وهو ما تماهى مع تعريف هيقل للإغتراب، إذ وصفها بأنها لحظة ضرورية في عملية الحياة، واكتمال الإغتراب هو عندما تصل الروح للحالة الحقيقية من معرفة الذات، وهو ما يدركه عند قراءة ما كتبه لكارلا ذات رسالة، فيقول في الصفحتين الأربعين والحادية والأربعين: «أتواصل مع الكون الفسيح بقلب مشرع الأبواب والنوافذ، وبعقل لا يمرر السموم إلى أفكاره ... لهذا السبب أكتب ...لأتحول إلى شيء آخر».
 
وقد آمن الأمجد إيلاهي أن الكتابة هي مساحته ووطنه السرمديان، فكتب نيابة عن كل الذين يشبهونه، نيابة عن كل الذين آذتهم الحياة، نيابة عن كل من تعثر وعيهم ببطلان واقع غير منصف، وثوار حقيقيين كثر أوهمتهم قلة فاسدة بعجزهم عن فعل الرفض، وفي هذا المعنى يقول في الصفحة السابعة والعشرين: «آمنت بالثورة في معناها الخالص النقي، وآمنوا بالركوب على آلامنا!» ويضيف في سخرية لاذعة: «وإن ركب بعضهم ونجح في إقناع البؤساء بأكاذيبه، فقد ركب أكثرهم على إصبع الزمن الضائع منا كالإبر في العشب». وكان لا بد من هذه السخرية نظرا لتعمق المأساة في وعي الكاتب، وكذلك في واقع شعب ثائر طالما تعدد الأمجد الإيلاهي كي يمثله: يقول في الصفحة الثامنة والثلاثين «أكتب إليك من مقهى البطالة والجفاف، ومن حانة الشوق، ومن مرارة الخيانة ومن حيف الزمان ومن حضائر البناء... أكتب إليك بقلب مدرس بالإعارة من عمق الصحراء. أكتب بوهج الثورة وحب الحياة ... أنا كل هؤلاء واحدا واحدا بمفردي، فتعددي ليستقيم الحوار!».
 
كل هؤلاء المغتربين عن الحياة الفعلية بمن فيهم الأمجد إيلاهي، أنتجتهم آلة مجتمع رأسمالي، أو مجتمعات ما بعد الحداثة، لذلك وإن خضع المجتمع لتلك الآلة الطاحنة، فإن الكاتب والشاعر مجتمعين في نفس الأمجد، اضطلعا بمهمة ترتيب العالم داخله، بما يتوافق مع ما يراه مناسبا مصدرا لنا رؤيته الخاصة لذاته البشرية وللعالم من حوله، ذلك أن الكاتب ذو رؤية استباقية للمجتمع، يؤسس لصياغته وتشكيله بالشكل الأمثل والأجمل، وهو بالضبط ما ذهب له كارل ماركس في تعريفه للمغترب، حيث رأى أن الاغتراب هو إفراز طبيعي لمكننة الحياة البشرية، وهي نتاج لفشل المجتمعات الرأسمالية ومجتمعات ما بعد الحداثة في خلق مفهوم الإنسان السعيد».
 
«رسائل إلى كارلا وكما وصفها الأديب نصر سامي، «حفر عميق في اللحم الحي» وبقدر ما يكون الحفر في اللحم الحي موجعا، بقدر ما تكون فائدته عميقة، فلا يحفر في اللحم الحي إلا لغاية الشفاء، أو استئصال ما تعفن منه، أو أصبح منتنا مريضا يهدد سلامة الجسم بأكمله.
 
وفاجأنا الأمجد الإيلاهي بكتاب ترسل متفرد عما سبقه من كتب الترسل، فجاءت اللغة شعرية جميلة، وجاء الوعي حادا مجحفا موغلا في القدم والمصداقية، ينم عن فراسة في رؤية الواقع وعن نظرة فلسفية، فهي وإن خلقت روحا غريبة مغتربة، فإنها خلقت أيضا أثرا أدبيا جامعا بين عمق الرؤية وشاعرية اللفظ.