Friday 29th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    02-Feb-2021

العبور إلى المئوية الثانية صلابة البناء وعقلنة النقد

 الدستور-أ. د. خليل الرفوع/ أستاذ الأدب العربي بجامعة مؤتة

يذكرني عبور الأردنيين بدولتهم من المئوية الأولى إلى الثانية بقول المتنبي في وصف قلعة الحدث الحمراء:
بنَوها فأعلَوا والقنا يقرعُ القنا
وموجُ المنايا حولها متلاطمُ
ولعل هذا البيت يوجز لنا تاريخ الدولة الأردنية منذ مائة عام من التأسيس والبناء والتنمية، وتجاوز مآسٍ ومهالك بفضل الله، ثم بنضج الحكمة السياسية والرشد الوطني وتنامي بصيرة الوعي بأن الدولة الأردنية أسست لتبقى؛ فلسنا في زوايا التاريخ نتململ ترفًا أو نغني مواويل اليأس على أوتار الكسل القومي، بل إننا دولة أحكمتْ بناء مؤسساتها ابتداء وانتهاءً بمؤسستَي العرش والجيش وما في أكناف المكان والزمان والإنسان من عناصر الحياة: تعليمًا وصحةً ومواقفَ قوميةً وعملًا واستشهادًا وعشقًا وطنيًّا خالصًا.
لقد تجاوزت الدولة محنًا عسيرة كانت أمواجها تتلاطم من حولها بمؤامرات الانقلابيين وبنادق الثوريين ومنشورات المثبطين العابثين ومطامع الكيان الصهيوني، وخرجت من دوائر الزوابع المهلكات أشدَّ صلابةً، فحينما يكون الوطن بيتا ومأوًى وسكنًا يتحول الدفاع عنه من موت إلى شهادة، ومن غفلة إلى يقظة، ومن ذكريات شعرية عابرة إلى أمانات تُرَدُّ كرامةً إلى أهلنا أجدادًا مؤسسين وأحفادًا وارثين.
ليس الحديث هنا موئلا للمقارنات أو المقاربات مع غيرنا، فلكل دولة مسارها التكويني الاجتماعي التاريخي، لكنها سمة الوعي التي تميز الأردنيين أولا، والتنفس القومي في روح الأمة ثانيا، نعم كان عبورا أنيقا ناجحًا لعين الناظر المتوسِّم في المئوية الأولى، وعلى مشارف المئوية الثانية صعودًا إلى مقامات الثالثة يكون الوقوف إجباريا ليس لخلخلة البناء المحكم بل بحثا عن موجبات الاستمرار والضرب في الحياة والاستمرار، وإن اللهَ لينصرُ الدولةَ الكافرة العادلة على المسلمة الظالمة، فمفتاح النصر الكوني هو: العدل، وإذا ما امتلكته الدولة بيد مبسوطة تكون مطالب أبنائها حقوقا مقدسة وليس تمننًا أو تفضّلًا عليهم، ومساواة كريمة وليس تفرقة أو بغيًا، وعدالة باطنها كظاهرها وظاهرها كباطنها، فأردنية المواطن تقتضي حقًّا غير منقوص في إعطائه، وواجبًا غير ممنون في تأديته.
وقوفًا وتبصُّرًا أيها الأردنيون على شرفات المئوية الأولى ومشارف الثانية لتأمل مئة عام من الأمن والبناء والوعي والحكمة والصبر والإخاء والجدال والرؤى، لا نتحمل أخطاء أو خطايا غيرنا، وليس علينا وزر من آثام أو نكبات أمتنا؛ لأننا لم نكن إلا رصاصا في جبين الكيان المغتصب، ففي فلسطين أرضا وماء وسماءً لنا شهداء أحياء، هم ما بين عيوننا ونواصينا تيجان عمائمنا وبياض جباهنا، وفي ديارنا ثلة من الأولين والآخرين آمنوا بالله ثم بالأردن وطنا يستأهل الشهادة؛ فارتقَوا في العلياء عند ربهم أحياء، وصعدوا في قلوبنا شرفا وإنا على آثارهم لمقتفون.
مثلما يكون الوقوف احتفاء بالمنجزات وليس احتفالا عبثيا، يكون في اللحظة ذاتها تأملات نقدية ومراجعات فكرية للتقييم والتقويم معا.
المئوية الأولى لم تكن تجربة رفاهية بل كانت حركة واقعية ناجحة يبنى عليها، ويستدرك فيه، ولنا في استقرار مؤسستَي العرش والجيش مثل يمكن استلهامه ليكون سبيلا ممنهجا في مؤسسات الدولة الأخرى كي تستقر ولا تُرمى كل حين بسهام النقد الطائشة، الولايةُ العامة تقتضي انتخاب رئيس الوزراء مباشرة، والتوافق الوطني على قوانين ثابتة دائمة للانتخابات البرلمانية والحزبية وغيرها، ومهنة النقابات بعيدا عن التناوش أو التشكيك أو التعطيل، وعدم الاستقواء على الدولة اختلاسا ونهبا وتجاوزا ورِدَةً ومحاصصةً، هذه عناوين تتشابك مع غيرها من الحريات والحقوق والواجبات وهي مضبوطة دستوريا لكن التجانف في التطبيق جعلها تستفز أهل الحق ليغضبوا، وتستدرج أهل الباطل ليزدادوا تعسفا للمناصب العليا وأكل أموال الناس وحقوقهم بالإثم.
الفقر والبطالة والتهميش منافذ تتسع لكل المقهورين وصولا إلى انتزاع حقوقهم بكل وسائله التعبيرية أو الفعلية، والمشاركة السياسية الحقيقية علامة فارقة في الديمقراطيات المعمرة، والطبقية الاجتماعية الناتجة عن ازدياد دوائر النخب الرأسمالية المتوحشة مقابل الفقر المودي بأهله إحدى وسائل تفكيك الدول وتدميرها، فليس بدٌ من أن يتحول المواطن إلى فاعل مؤثر في الحركة الاقتصادية وليس خادما مستعبدا تحت عجلاتها.
وبعد، فقوننة مؤسسات الدولة والعدالة الاقتصادية الاجتماعية، والمشاركة السياسة الفاعلة الدائمة، واستئصال كلًّ من الفساد والمحاصصة والتنفيعات والتوريث العائلي، وبعث الحرية والمساواة وفصل السلطات وإبداء الرأي الصحفي والموضوعي، عناوين كبرى تستحق حوارات وطنية متواصلة ونقدا عقلانيا متزنا، فالاستماع والحوار وصولا إلى مشتركات جامعة أهداف نبيلة تزيد من متانة الدولة وتجديد خطابها وشبابها وقوتها، وصولا إلى روح الديمقراطية وشكلها ومدارجها، وإذا كان عنوان المئوية الأولى التأسيس والبناء والتنمية فليكن المؤمل من عنوان المئوية الثانية الديمقراطية منهجا وسبيلا.