Friday 26th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    17-Jan-2020

البوليفون الجندري في رواية جمال مطر المعنونة بـ«كلب»

 الدستور-د. نزار قبيلات

لوهلة قد يظن قارئ هذا العنوان بأنه عنوان يحمل في انثيالاته مغامرة دلالية محسوبة، ينطوي على تعدد مفتوح الدلالة تشير إليه لفظة كلب بصفتها العتبة الأولى للقراءة والمعبر الاستراتيجي للدخول لعالم هذه الرواية الرشيقة الصفحات والبسيطة في مضامينها وشخوصها والتي رُسمت تبعاً لثنائية الأسرة وعمودها:  ثنائية سالم الزوج، وليلى الزوجة، فما أن انهيت من تصفح الصفحة قبل الأخيرة لأكتشف أن العنوان ليس جزءاً مستقلا يوازي وجوده الرواية المتن؛  فقد بدأت الرواية وانطلق السرد فيها منذ قراءة لفظة كلب مقرونةً بالفاتحة السردية غير المستقلة عن جسد الرواية، وللتوضيح فإن هذا العنوان كان قد لعب دوراً مهماً في تماسك بداية الرواية بخاتمتها؛ فقد تعرضت ليلى للعضّ مرتين لقاء وفائها وإخلاصها:  مرةً من كلب فعلاً، ومرةً أخرى من إنسان كلب لم تَكُن له سوى الحبّ و الوفاء، فقد جاء فعل العضّ نظيراً لصفة الوفاء والإخلاص، ما شكل هنا تسآلاً حثيثاً لأبرز الأسئلة الإنسانية التي يمكن إثارتها في عالم الرواية الرّحب والفضفاض والمتسع لكل الثنائيات والإشكالات، فالرّواية فنٌ يمكن أن يُبنى وفقا لـ»مبرتو ايكو» على فكرة ما، أما ما تبقى فلحم يمكن أن نضيفه للكتابة.
لقد امتازت هذه الرواية بالحركية والدرامية إلى حدٍّ كبير؛ فحدث عضّ الكلب لليلى في صغرها أرعبها ورافقها حتى نشوء أسرتها، فأصاب هذا الداء ابنها ثم في النهاية زوجها السكير العاشق الذي عضها بدوره على إثر خلاف أسري نجم عن لحظة شك تبعها انهيار لحالة الحب غير المتزنة بينهما، ولكي يحقق «جمال مطر» كاتب هذه الرواية توازنا وتساويا في السّرد اعتمد على تقنية التعدد الصوتي القائم على تعدد في الرواة؛ فراح يقسم مفاصل الرواية إلى عنونة فرعية يكون فيها السارد مرة ليلى أو سالم أو الرّاوي العليم، ولأن مفهوم الأسرة يحوي بيت الأسرة فقد تراخى الوصف في هذا الرواية وقصُرَ عن إبراز المكان الخاص بأسرة ليلى لصالح المكان الجمعي لكل شخوص الرواية، فقط كان الوصف المكاني بائنا في جانب عائلة أنطوني وزوجته التي عشقها سالم تالياً، ولعل السبب يعود أيضا فضلا عن تصوراتنا المسبقة لبيت الأسرة يعود إلى محاولة الكاتب في الكشف عن صراعية الرواية من خلال حدث تزويج كلب أسرتهم من كلبة أسرة أنطوني و ياسمين فاحشة الثراء التي تسببت العلاقة معها  بوقوع سالم في حبها وهي القادمة من مجتمع مخملي غير محافظ.
 في الرواية تبرز الصراعية بفضل حبكة واضحة المعالم يدركها أي قارئ، إذ لم يبالغ «جمال مطر» في تعقيدها أو تجديلها؛ حبكة تقوم على ميل رب الأسرة (سالم) الذي لم يعد سالماً ووقوعه بحب ياسمين بعد حادثة الاحتفال بتزويج كلبيّ العائلة، ويرافق هذه الصراعية كمقياس سردي ناجز في هذا العمل  بروز السينمائية في هذه العمل من خلال المشاهد التي أحسن الكاتب خلقها، ولعل أكثر المشاهد شدا وخلقا لما يعرف بمسافة التوتر هي المشاهد التي نقلها لنا الراوي في «فيلا»  أسرة طوني ومشهد «عضّ» سالم لزوجته ليلى التي شك بها في تلك اللحظة تحت تأثير الخمر، فأميط اللّثام هنا عن سر العنوان ودلالته الواضحة التي أرادها الكاتب دون مواربة. إذاً فدلالة كلب لا تحتمل أكثر من ذلك التأويل رغم إدراكنا لغنى قاموس الكاتب وشعرية لغته وقدرته على توظيف اللغة التسجيلية والشعرية معاً لإحداث شد وتكثيف في المشهد الذي يحاول تقديمه بلغة تكتسب شعريتها من التفاصيل المادية و ليس البلاغية وحسب، ومثال على ذلك مشهد تركه لصديقه العراقي الناصح له في المقهى بعد أن استعر الحديث بينهما وراح صديقه هذا ينصحه بعدم المساس بأسرته لصالح ياسمين زوجة طوني، فقد ذكر له أن حبه لها نابع من جمال تلك المرأة فقط؛ وعليه جاءت المشاهد مكتملة التفاصيل متشاكلة من الناحيتين النصية و الخطابية:
«تركته جالساً في المقهى حانقا كطفل أخذوا منه لعبته لم أدفع الحساب ليدفع هو عقابا له لأنه هز حلمي الجميل. قلبي يوجعني كمراهق خط خطوطا على الرمل ليكتب اسم حبيبته فبعثره الرمل ....أأتركها؟ لا استطيع........زحام شديد و سيارة شرطة ...... وصاحبنا يعتذر للشرطي والشرطي لا يعيره اهتماماً.....»
لقد فسح التعدد الصوتي (البوليفونية) في الرواية المجال لكل من ليلى وسالم وأتاح لهم  توسيع رقعة الحكاية وإبراز الكثير من التفاصيل التي قد تُرى بسيطة وحقيقية لكنها تغدو شعرية وساحرة في حال مرّرَ عليها روائيٌ بارع بَصره؛ روائي يستطيع طرح الكثير من التفاصيل والمعالجات الاجتماعية في مكان يبدو غير متسعٍ، فقط برع جمال مطر في تلوين روايته بشيء من أدب البحر و الآخر المغترب ورسم طبقات من التجمعات الشبابية الجديدة على البناء المجتمعي الحديث،  كما وطرح قضية الأسرة في زمن السرعة والصرعات الحديثة. كل هذا سمح بأن نقبل العنوان الذي لم يحمل مفارقة بقدر ما أحدث تماسكا وتشاكلا هو الآخر في متن الرواية التي خلت من التوصيف المبالغ الذي لو أسهب فيه جمال مطر لبدت الرواية سمينة ومثقلة، أمّا لغة الرواية فقد كانت متجانسة مع كل صوت سارد،فحملت وجهة نَظرهِوطرّزت ثوب شخصيته، وإن كان الروائي قد  مال في آحايين كثيرة لتبرير بعض الأحداث التي لا يلزم أن يقوم بها، فالروائي لا يمكنه تبرير أي فعل،  فهو أذ ذاك غير مطالب بكتابة تقرير أو تقديم  بيّنة دفاع، وعلى هذا فإن  لغة جمال الشعرية والدرامية في آن تبشر بخير وترسم على لوحة الرواية العربية اسما سيكون له شأن كبير.
فشكرا «جمال مطر» لأنّ العضات التي تأتينا لا تكون غادرة أو مؤلمة وحسب بل لأنها قد تأتي من إنسان قد يخال لنا بأنه أكسير الوفاء و الحب، فكم من عضات تنتظرنا في مغبة هذه الحياة المائجة.
*أستاذ مشارك/ جامعة نيويورك أبوظبي