Saturday 20th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    09-Oct-2020

حسن الأعرج والجهبذ والحذاء..

 الدستور-بكر السباتين

كانوا جالسين في رواق أحد المطاعم الفاخرة، يحتسون قهوتهم على شرف صديق عائد من الغربة يدعى بهجت، حيث أدمت الغربة روحه وقلم صقيعها أظافره، فعانى ظلف العيش وكافح حتى تمكن أخيراً من تحقيق أحلامه، ساعده في ذلك أنه كان متفوقاً عبر كل المراحل الدراسية حتى حصوله على درجة الدكتوراة في الأدب الإنجليزي من جامعة أمريكية مرموقة.
 
لكن الرجل بعد عودته إلى الديار فوجئ بأنه ظل دون عمل وساءت أحواله المادية، وبدأ يتصل بأصدقائه عله يحظى من لدنهم بمساعدة.. لذلك جمعهم هذا اللقاء في أحد المطاعم الفاخرة.. وأخذوا يتباحثون في أمر خدمة ينتظرها هذا الضيف المتعثر مادياً من قبل شخص من المفروض أن يطل عليهم بعد دقائق حيث قيل أثناء ذلك بأنه سيكون مفاجأة الجلسة.
 
وكان بهجت يتخيله شخصاً سميناً منتفخ الأوداج كديك الحبش، تتبدى على وجهه سمات تجمع بين الصرامة وحسن الكياسة:
 
«أمثال بعض من نصادف من الأوغاد في حياتنا فنضطر لمجاملتهم بسبب الحاجة»
 
لكن أحداً لم يفصح لبهجت عن تفاصيل اللقاء المنتظر مع الشخصية المرموقة حتى لا تحترق المفاجأة.. وعليكم أن تتوقعوا طبيعة الذكريات التي أخذتهم إلى باحاتها بوجود شخص متفوق مثل صاحبنا بهجت الذي اشرأب برأسه متباهياً بتفوقه المعرفي وهو يفيض على الجالسين من علمه الغزير إلى درجة التقيؤ والشعور بالملل، فأوشك صبر بعضهم ينفد، لولا انغماسهم فيما بعد بالحديث عن ذكرياتهم المدرسية.
 
طبعاً لم تبتعد هذه الذكريات عن نوادر الأغبياء والفاشلين في الدراسة والمواقف المضحكة لهم مع المدرسين الذين «هَروا وبَرَهُمْ بالضرب»، وقد تركز حديث صاحبنا بهجت بروح نرجسية في الغالب على الطالب الفاشل بائع كرابيج الحلب، اليتيم المسحوق، حسن الأعرج.. وكما كان ينعته هذا الجهبذ حيث كانوا يحتسون قهوتهم على شرفه، بالأبله. وتساءل عن أخباره وهو يهرس عقب السيجارة في المنفضة الزجاجية. واستكمالاً للمفاجأة، بادر أحد الجالسين بينهم إلى الاتصال بالأعرج كي ينضم إلى جلستهم الجميلة ما أثار غضب بهجت.. معلقاً:
 
«هل جننت!
 
الأعرج التافه الفاشل في دراسته وحياته سيجلس معنا هنا!
 
ألم تعلمكم الجامعات المرموقة بأن لكل علاقة عناصر نجاحها مثل التوافق في الدرجة الأكاديمية والمستوى المعيشي والمزاج.. فمتى توافقت أمزجتنا مع ذلك الفتى الذي كنا نلقبه بالمشرد فيلبي مطالبنا بشراء ما نبتغيه من خارج أسوار المدرسة فيعود إلينا وهو يتحسس مؤخرته التي تكون قد تعرضت للضرب بالعصا من قبل المدرس المناوب إزاء مخالفته التعليمات التي تمنع الخروج من الساحة أثناء الفرصة.. ومقابل ماذا!! قرش واحد كان يبهج هذا التافه ثم يمضي إلى شأنه»!؟
 
وتداركاً للموقف الذي وضع نفسه فيه وخاصة أن ملاحظته أزعجت الجالسين؛ قال بهجت مازحاً:
 
«تباً لكم!
 
هلموا واحضروه كي نداعبه فيخفف من وطأة الضغوطات التي لا فكاك منها.. نريد ما يطرّي الجو»
 
وفجأة كان حسن الأعرج خلفهم ويبدو أنه الشخص الذي كان منتظراً حيث تلقى المكالمة وهو في طريقه إليهم، وقد توقف على آخر عبارة قيلت بحقه.. بدا نحيفاً وهو يستدير بهدوء كي يستقر في صدر الجلسة وسط حفاوة الأصدقاء الذين هبوا لاستقباله.. متناسين بهجت الذي صافحه ببرود والعبارات تتلاحق في جوفه محاولاً كظم غيظه الذي جاء في غير موعده والعبارات تتجاوب في أعماقه:
 
«ظننت الشخصية المرموقة كأنها ديك حبش ممتلئ بالهيبة.. ولم أتوقع أن يكون مثل حسن كدجاجة عرجاء منتوفة الريش.. يا للخيبة وسوء الحظ».
 
لم يجرح كلامُ بهجت وتعليقاته المتعالية حسنَ أبداً؛ بل ضمر الأخير في قلبه ما سيلقن هذا المغرور درساً لن ينساه طوال حياته مبرراً رغبته الكامنة بأنها: «لإثارة المتعة فحسب».
 
كان حسن يرتدي لباساً عملياً.. وضع الملف على الطاولة وراح يسأل دون مقدمات متغافلاً ما لديه من بيانات تتعلق بالأمر:
 
«من هو الصديق الذي يعاني من أزمة مالية!؟فقد أساعده في حل مشاكله.. علمت بأنه حاصل على الدكتوراة في الأدب الإنجليزي! هذا مناسب.. لأنني أخطط للاستثمار في قطاع الجامعات.. وبدأت إحدى مشاريعنا ترى النور في دولة عربية مجاورة، وربما من قبيل المصادفة أن إدارة المشروع بدأت بنشر إعلانات عن حاجتها لكفاءات إبداعية حقيقية في كافة المجالات.
 
وعلق أحدهم بعد أن استقر الجميع في جلساتهم، فيما بدأت الضيافة تدور بينهم وتعبق المكان بنكهة القهوة المصبوبة في فناجين بيضاء فترتشفها الأفواه بتلذذ وانسجام:
 
«لا نريد أساتذة يتعاملون مع الطالب الجامعي كتلميذ مدرسة، فيحطمونه بنظريات هم في الأصل لا يفهمون روحها، وحينما يتقدم الخريج بمشروعه ينسبه الأستاذ لنفسه في إطار إسهاماته في البحث العلمي، وكل تصرفاتهم مع الطالب تكون نابعة عن مرتب نقص، لأن مسمياتهم الوظيفية لا تتناسب وقدرتهم على الخلق والإبداع، وما أكثرهم في جامعاتنا»!!!
 
فرد حسن متحاشياً التفاصيل:
 
- تذكر يا صديقي بأنه حتى أينشتاين في نسبيته استعان بفريق متخصص ليعزز قدراته في تفسير الكون الأحدب.. هذا فريق بحث لا شك بأن له رئيس يدير الفكرة وبالتالي سيكون هو من حقق النتائج.. لا نريد أن نتجنى على أحد بالحكم.. في المحصلة ثمة معايير هناك يتم اختيار الكفاءات على أساسها.. نريد أساتذة ورش تبدع في صناعة المبدعين الخلاقين.. الجامعة مشروع يحفز على التعلّم والإبداع والحوار المنفتح على الآخر؛لتخريج موارد بشرية مدربة وناضجة فكرياً وخلّاقة يأخذها تواضعا للعمل والإنتاج دون...»
 
ثم أكمل حسن كلامه وكأنه يوجه الحديث لصديقهم بهجت الذي أثار حفيظة الأصدقاء بسبب ما أبداه من ضيق لوجود رجل جاء لنجدته.. فقط لأنه حسن الأعرج الذي كان مطيته في الصغر:
 
« العالم يريد من يتقبل الآخر ويعمل بإخلاص دون تنطع وليس كمن يتصرف وكأن العالم ملكه.. مثل ديك الحبش الذي سيقضي جلّ حياته منتفخ الأوداج وصراخه يملأ المكان دون تأثير وكأنه جعجعة بلا طحن».
 
فسأله أحد الجالسين مندهشاً:
 
«وماذا درست يا حسن؟ وفي أي جامعة؟».
 
فرد عليه:
 
«في جامعة الحياة.. لم أحصل حتى على الثانوية العامة.. لكنها الحاجة والإرادة والانطلاق كل ذلك عزز لدي القدرة على التحرك والإبداع فصنعت نفسي بمجهودي».
 
وأكمل وهو يراقب صديقهم الجهبذ من طرف عينه، قائلاً:
 
«لا بل رفضت قبول عدة شهادات دكتوراة فخرية من مؤسسات تابعة لجامعات مرموقة، حتى لا أجيّر نجاحي إلى إحداها فأخدش عصاميتي.. وفي محصلة الأمر أبنائي تلقوا تعليماً جيداً وإحدى بناتي تستعد لنيل الدكتوراة في مجال التخطيط الصناعي وستنخرط لتعمل في شركاتنا لتتدرج في الارتقاء الوظيفي كشأن كل العاملين لدينا، حتى تتقن تفاصيل المصلحة ليكون بوسعها إدارتها باقتدار وفق خطتي للتطوير الصناعي».
 
ثم نبههم إلى أن وقته ضيق جداً، وسألهم عن الصديق الذي يحتاج للمساعدة.. فالتفتت الأنظار إلى بهجت الذي أصابه شيء من الامتعاض.. وكأن كبرياءه أنف النزول عن قمة الجبل، إذ ارتبك متأففاً بعد أن اختلطت عليه الأشياء.. وكأنه تراجع عن شيء كان يريده، وتجمعت مشاعره في تقطيبة أضفت على وجهه مسحة من العبوس فبدا لمن يعرفه من الجالسين بأنه يتحرج من التعامل مع شخص كان يعتقد بأنه فاشل.. كان بهجتموعود في مخيلته بشخصية متنفذة معروفة أو بوسيط يجمعه بالنجوم.. وتساءل في أعماقه والخيبة تلتهم رأسه المصدوح:
 
إذن هذا هو حسن الأعرج الذي دعيناه في الأصل ليضحكنا!
 
كيف صار ثرياً على هذا النحو حتى يمنّ علينا بفضله!
 
هزلت إن قبلت خدمة من أمثاله وأنا حاصل على الدكتوراة التي لا يحلم بها أمثاله..
 
فالجمل لا ينوخَ حتى يرتقي أمثالُ هذا الأبله سنامَه.. عليّ أن أغادر فوراً فأحشائي تتقطع كمداً على حالي.. هذا زمن يسوده الفاشلون والأوغاد».
 
فما أن انتهت التداعيات المتحشرجة في أعماق بهجت، حتى استأذنهم، وقد امتقع وجهه كمن صفع بحذاء قديم، بذريعة أنه على موعد مع الأهل في مناسبة فرح.. وغادرهم دون أن يغير ذلك من حلاوة الجلسة التي صارت بعدها على شرف الصديق العصامي حسن الأعرج.. الذي دهش لعدم وجود أراجيل في الجلسة.. فصفق بيديه دون تكلف داعياً النادل إلى تجهيز المطلوب..
 
«لندع الأراجيل إذن بعد وجبة العشاء.. فلن أغادركم رغم ازدحام مواعيدي»
 
وبالفعل كانت من سهرات العمر. وتنعموا جميعاً بما لذ وطاب واستباحت ألستهم كل المحاذير، آخذة في طريقها كل ما صادفته من باب التندر.. حتى بهجت الذي استيقظت قصته في رأس حسن منبهاً الجميع:
 
«يبدو أن بهجت قد ألمت به وعكة صحية حتى غادرنا مدعياً بأن لديه مناسبة خاصة! لم ينتظر حتى نتحدث عن موضوع الوظيفة التي بحكم خبرتي لا أضمنها حتى لأقرب الناس إلي.. أخبروه إن ظلت رغبته في ذلك قائمة أن يتصل بي غداً حتى يقدم ما يلزم من أوراق لدى دائرة شؤون الموظفين وسوف أعتني بطلبه علّه يظفر بالوظيفة التي تتلاءم مع تخصصه.. وإنشاء الله تكون من نصيبه».
 
لم يكترث بهذه الكلام غير صديق كان يعرف بأن كبرياء بهجت سيقضي عليه ذات يوم «عدو نفسه» وأن الفرصة لا بد وتذهب لمن يقبل بأن الارتقاء يبدأ من الصفر والتواضع من صفات الناجحين.. ورغم ذلك أجاب باهتمام:
 
ما على الرسول إلا البلاغ يا صديقي.. سوف أخبره بالأمر.. وإنشاء الله تكون الوظيفة من نصيبه.