Thursday 28th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    19-Oct-2020

انهارت الدولة… لماذا لم تزدهر الثقافة؟

 القدس العربي-سعيد الشيخ

إنّ المرءَ يقف اليوم مشدوهاً أمام مقولة ابن خلدون في مقدمته الشهيرة، التي رأى فيها: «إنّ الثقافة تزدهر في عهد انهيار الدولة»، وهي لم تتطابق مع حال زماننا. حيث شهدنا ونشهد انهيار العديد من الدول العربية، ولم نشهد ازدهاراً للثقافة في هذه الدول.. وهذه الدول ليست قليلة، لكنها تكفي لنستطيع أنْ نشكّل رأياً عاماً عن مآل الثقافة العربية عبر عهود مديدة ومختلفة.
ونضيف كمثال فقط، لقد عاصرنا في تسعينيات القرن الماضي سقوط الاتحاد السوفييتي، ومعه دول المنظومة الشيوعية في أوروبا الشرقية، بخبطة فكرية واحدة، ومنذ ذلك التاريخ لم يُسجل أي ازدهار ثقافي أو نهضوي يُذكر في هذه الدول، بل لمسنا القطاعات الشعبية غير معنية بالتحولات الفكرية والأيديولوجية، وهي تتسابق بشكل حثيث لتأمين لقمة العيش، التي باتت من مسؤوليتها مع غياب المنظومة الاشتراكية.
٭٭٭
ما يعنينا في هذه العجالة هو الثقافة العربية، التي نستخلص من مسيرتها، أنّ زماننا العربي هذا لا يشبه زمان ابن خلدون، ما يجعل نظريته آنفة الذكر غير جازمة، وهي في حالة من الاهتزاز والتأرجح، حين نحيلها إلى المشهد العام للانهيار العربي الشامل، الذي يقدم نفسه بحزمة كاملة على صُعد تراتبية، منها السياسية والعسكرية والاجتماعية والثقافية، وباختصار، هي هذه الحياة العربية التي لا تعرف الاستقرار. الازدهار الثقافي كوصف لواقع الثقافة العربية اليوم في ظل دول فاشلة آيلة للسقوط، يبدو تهكمياً ومزرياً، ممّا نشهده من انحطاط لم يعد خافياً على أحد. ويتفق الكثير من المثقفين وفي مختلف مشاربهم الفكرية على أنّ الانحطاط بدأ باكراً مع نهايات القرن العشرين، وبشكل مطرد، وقد وصل اليوم إلى الجذور.
إذا كان التاريخ يسجل أنّ النهضة العربية شهدتها بعض الأوطان منذ نهاية القرن التاسع عشر ومع بداية القرن العشرين، فإنّ ذروة التطور اكتسحت المشهد الثقافي منذ منتصف القرن الماضي، مع بدايات النهوض الوطني في ظل انسحاب القوى الاستعمارية عن بلادنا. وهذه ظاهرة أخرى تتناقض مع ما فكر به ابن خلدون عن ازدهار الثقافة في عهود انهيار الدولة، إذ شهدنا نهوضاً ثقافياً مع قيام الدولة العربية، ولكن ظلّ يؤخذ على نتاجات تلك المرحلة بأنها مجرد ثقافة معلبة ذات طابع إعلامي، ولا شأن لها بالإبداعي، وهي موجّهة للدعاية في تلميع العشيرة والحزب. ويبدو أنّ هذه الثقافة مستمرة إلى يومنا هذا، برعاية أنظمة عربية تهيْمن وتستبدّ بمقدرات البلاد والعباد. وهذه الأنظمة لا ترعى إلا الإسفاف الثقافي، الذي لا يمتّ للحداثة بِصِلة، وفي الوقت نفسه هو على قطيعة مع التراث. من أبرز سماته التضليل وتزوير التاريخ.
الازدهار الحقيقي الذي يمكن الإشارة إليه قد تَمثل بالمبادرات الفردية التي أطلقها مثقفون على مختلف نزعاتهم الفكرية ومدارسهم الإبداعية، منذ خمسينيات القرن الماضي، حيث شهدت القاهرة وبيروت وبغداد وعواصم أخرى، سباقاً حقيقياً من أجل ترسيخ ثقافة إنسانية ترتكز على الحداثة شكلاً ومضموناً، تخاطب العقل وتنادي بالتحرر والحرية، لكن ولعوامل عديدة منها القمع السلطوي والوضع الاقتصادي المتردي، تلاشت هذه المبادرات لتصبح الساحة الثقافية فارغة، وعلى هذا الحال الذي نشهده اليوم من خراب.
من جهة أخرى وبدقة في التمحيص، يمكن الاستشفاف من فحوى مقولة ابن خلدون عن ازدهار الثقافة في عهد انهيار الدولة، إنّ الدولة هي قامعة للثقافة ومُحبطة لتوجهاتها، مُقوّضة لنتاج العقل ومُزيّفة للحقيقة، وكل هذه من أساسيات الفكر الإنساني الذي يعيش مع التاريخ، ما حيا الإنسان.. ولكي تزول أسباب نكوص مثل هذه الثقافة، يجب أن تزول سلطة استبداد الدولة لصالح حكم رشيد يعمل بشفافية وبآليات ديمقراطية.
٭٭٭
لقد مرت ستة قرون على رحيل ابن خلدون الأندلسي، ولم ندرك فكره وفلسفته، لذلك تبدو لنا فكرة ازدهار الثقافة مهزوزة ومتأرجحة، مع ما نشهده من احتضار ثقافي نعيشه اليوم. فهل كان زماننا هذا مجرد محطة في رحلة ابن خلدون الفكرية والفلسفية، والرجل في الواقع كان ينظر إلى أبعد من زماننا هذا؟ أم أنّ فكر ابن خلدون ولد غريبا في عصره ووصلنا غريباً، ولم نتعرف إلى ملامحه لعدم إدراكنا بما تفوّق به أجدادنا القدماء؟
والسؤال الأشد مرارة، هل آثار عصور الظلام، التي مرّ بها العرب عبر مراحل التاريخ ما زالت عالقة على جسد لغة الضاد وثقافتها، بحيث فشلت النظرية بتطابقها مع زماننا؟ ولكن إلى أي مدى تطابقت نظرية ابن خلدون الأخرى التي تقول: «عندما تنهار الدول يكثر المنجمون والأفّاقون والمتفقهون والانتهازيون، وتعم الإشاعة وتطول المناظرات وتقصر البصيرة ويتشوّش الفكر».
 
٭ كاتب فلسطيني