Wednesday 24th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    10-Jun-2020

حدود الكتابة عند المصري محمد آدم

 القدس العربي-محمد الديهاجي

نُخمِّنُ أن فعل الكتابة، في تجربة محمد آدم الشعرية، يزاول الرسم، بتعبير أدونيس، بارتعاش كبير، ولا يعبأ سوى بالصفحة، بوصفها منشفة تخفّف من غلواء وهذر الصوت، ذاك «النسيم الحي»، وتُرفد المكتوب بالصمت الناطق. وعلينا، كقراء، أن ننتبه إلى هذا الأمر، مثلما علينا نحن كذلك، في هذه المقالة، أن نقرأ هذا الصمت، الملبد في خيمياء المكتوب، بوصفه «استراتيجية نصية» ، تقترح علينا أشكالا كتابية جديدة، لعل من أهمها، «النص القُبّرة» أو الومضة، تلك التي ترغم اليد الكاتبة، على أن تنحاز للمهب، وأن تخوض صفحتها بارتياب وشك كبيرين. اليد التي ترافق حركة القلم وتراقبها، في فتوق المعنى، رتْقا تارة، وفتْقا تارة أخرى. في ما اللغة، في مثل هذا الوضع، فإنها تلج «ليل المعنى»(بوسريف)، منصتة لنداء الوجود؛ أليست اللغة نعمة «من أخطر النعم»؟(هايدغر).
ويمكن القول إن إضمامات الجزء الثاني، من الأعمال الكاملة لمحمد آدم، تندرج جلها، في عملية المراهنة على الاقتصاد اللغوي، بما يضمن انشراح الصفحة، وارتقاء البياض إلى مصاف الدوال الرئيسة، ليقول ما لا ينقال. وسنعطي مثالا لذلك، من خلال نص «مزامير بالية»، إذ يستغرق المكتوب حيزا صغيرا، في أعلى الصفحة، تاركا للبياض إمكانية أن يلج «ليل المعنى»، بكل جلاله. يقول الشاعر:
هل كان يتعين عليّ أن أقطع الليل بالغناء بينما مزاميري بالية؟
حنجرتي لا تعرف كيف تخيط اللغة بحقيقة اللغة
يا لصباحاتك الغاوية
ويا لفجرك الظميئ
لوصمي.
الملاحظ، من خلال هذا النموذج، أن الشاعر اكتفى بخمسة أسطر شعرية، وضعها في أعلى الصفحة، تاركا للبياض والصمت، فرصة قول ما لديهما. فحنجرة الشاعر لم تعد تعرف كيف تخيط اللغة بحقيقتها. لذا كان عليها أن تستعين، بالانزياح، والخرق، والعدول، والإيحاء، ما جعل المعنى يلج الليل، والليل يلج المعنى. هيئةُ النص، هذه، تكررت بشكل لافت، في جل إضمامات الجزء الثاني من الأعمال الكاملة للشاعر؛ حتى إنها أصبحت تشكل جمالية خاصة، في البرنامج النصي، لدى محمد آدم. وفي نص «الإشارات»، من الجزء الثاني، من الأعمال الكاملة، دائما، يعطي الشاعر تعريفاته الخاصة، لمجموعة من الأشياء الكبيرة والصغيرة، في الحياة والوجود، وذلك بنوع من التفلسف بالمزطرقة (التعبير لنيتشه) أحيانا، وبنوع من الحدس العرفاني الصوفي أحيانا أخرى. والمتأمل لهذا النص، سيجد فيه، تقاطعا بديعا مع رسالة الشيخ الأكبر ابن عربي الموسومة بـ«لا يعول عليه». يقول الشاعر مثلا:- الوجد: هم بالليل
و….
ذل النهار
الفيض: بوح العين والخروج من كل عين
القلب: آفة التحول
ومرآة العاشق إذ يرى
الصمت: استمرار الوهم
والتشبث بأرض التحولات
العشق: أوار لا يخمد
ونار لا تنطفئ
وصمت..
دائم التحولات.
من خلال ما سلف، يتبين أن فعل الكتابة، عند هذا الشاعر، محكوم بما لا ينتهي. فعل منفتح باستمرار، على كينونته/وضعه غير المكرور. وهو بذلك لا يمتثل لأي نموذج ثابت أو قار، متفاديا، ما أمكن، أن يقع في فخ النص- النسخة، لأنه ـ فعل الكتابة- «نص- أصل» بتعبير أدونيس. إن الكتابة في أعمال الشاعر محمد آدم، فضلا عن بعض آثامها المحمودة، وقد وقفنا عند بعض منها أعلاه، تعبأ كثيرا بهيئتها ووضعها الطباعي. وهو وضع يُحفز، ما سميناه في مناسبة سابقة، بـ»شعرية الامتلاء»، أي ذاك الشكل الممتد، الذي يوهم القارئ (وقد يغلطه ويخدعه)، ليعتقد بأنه أمام نص نثري – سردي بامتياز؛ لأن الجمل المستعملة، هي جمل مسترخية، وذات تراكيب بسيطة، تُيسِّر عملية سرد الأحداث ووصف المشاهد، بفرحٍ نادر. فعلى سبيل المثال لا الحصر، نقرأ في إحدى قصائده:
وداعا للكلمات التي أحبها بعمق للموسيقى التي تمشي على قدمين حافيتين وتنام على العشب في ساعة الظهيرة للزمن الذي يركض على قارعة الطريق ولا يتوقف إلا أمام بوابة مقبره للحياة التي تقف على بوابة فجر ولا تستنشق إلا رائحة المستشفيات وغرف العناية المركزة.
ومن العلامات السردية البارزة، كذلك، في منجز هذا الشاعر، خصوصا في الجزء الثاني من أعماله الكاملة، بالإضافة إلى شعرية «الامتلاء»، المشار إليها منذ حين، كونه ظل حريصا على تثبيت، عند رأس كل نص/مقطع، عبارة (فصل…)، على غرار عادة الرواية، بوصفها خطابا سرديا، تنتظم بنيته الحدثية، في فصول. ولعل هذا الإثم (الإثم في الإبداع فضيلة)، يشكل خدعة سردية ضافية، تفضح نية الشاعر، في حرصه على أن ينكتب سردا؛ وكذا وعده الواثق، بكسر الحدود الفاصلة بين الشعر والنثر. إن القائم بالسرد، في هذه التجربة الشعرية المائزة والماتعة معا، تجربة محمد آدم، يلفي نفسه، عند كل مرة، أمام اختيارات وإمكانات عديدة في السرد. ومن جملة هذه الاختيارات، مثلا، اختياره الموت ومرفقاته، باعتباره ظاهرة فنية وأنطولوجية، مادةً حكائية ثرة؛ منها يستقي أفعاله السردية، التي ستنتظم في إطار سلاسل، يشُدّها رباط زمني خفي. أليس الموت نفسه سردا، على حد قول جمال بوطيب؛ فالجثة، تارة «تحكي [صامتة] حياة جسدها»، والجسد «مخرسا يروي قصة حياته»، تارة أخرى. باللغة، إذن، يحكي القائم بالسرد، في مجموعة من نصوص هذا الشاعر، موته؛ لأن اللغة «ليست جزءا من الإنسان، بل هي أفق استطاعته (وعجزه كذلك) في أن يعيش حياته وموته وذلك بالتكلم عنهما وبكتابتهما مع أكثر ما يمكن من الدقة».
في نهاية هذا المطاف، أختتم هذا المقال بالقول، إن نص محمد آدم، نصٌّ فيه «لهب يلتهم كل العوائق»(أدونيس). نص يحفر في أرض المآزق والمضايق؛ موسعا كل المعابر، تفاديا لأي انحباس شعري ممكن؛ وهو بذلك يرسخ عادات وممارسات جديدة في الشعر، توكيدا لجمالية الكتابي.
 
٭ شاعر وناقد مغربي