Friday 26th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    05-Nov-2021

قصتان

 الدستور-حنان بيروتي

 
 أبو بدر
 
أزال الغلاف الشفاف عن باكيت الدُّخان وأحصى عدد السجائر داخله، هزَّ رأسه كأنه يؤكد على الفكرة، سيبيعه مفرَّقا بسعر أعلى؛ الواحدة بخمسة عشر قرشا، فتح باكيتا من نوع آخر، أما هذا النوع فسيبيع الحبة منه بربع، ربع دينار؟! كثير على طالب مدرسة وهو راجع لبيته، من سيبقى في جيبه هذا المبلغ ليشتري سيجارة؟
يجرّب، التجربة لن تضير، وهو يفكر باستغلال وقوع دكانه قرب مدرسة للذّكور، ففي طريق رجوعهم مشيًا بعد انتهاء الدوام المدرسي، يشعر بعض منهم بالعطش فيشتري مشروبا غازيا مبرّدا فيزيده عطشا عوض أن يشتري ماء يجده في البيت، هناك من يعضه الجوع فيتسلى في طريقه بكيس «شيبس»، ومنهم من يشتري لوح شيكولاته وقلة من يواصل سيره ولا يلتفت لدكانه، وهو يفكر بطريقة لجذب هذه الأعداد الوفيرة كحبات المطر من الرزقة ولو كان ما يمتلكونه من المال قليلاً.
اهتدى لفكرة استخدام الولاّعة، وصار كلما اشترى طالب سيجارة أشعلها له، وسمح له بأن يدخن داخل الدكان، أيام قليلة وصارت دكانه الصغيرة تمتلئ بالأجساد الصغيرة الجالسة على البلاط المتسخ في مساحة ضيقة، تتكوّم حقائبهم بفوضى، يسترق الصغار شفط السجائر وتختلط موجات الدخان البيضاء بسعالهم، و»أبو بدر» منشغل عنهم يحصي بفرحة المنتصر العملة المعدنية المتجمعة من بيع السجائر فرط وفكرته العبقرية في إشعال السيجارة للتشجيع، لا بد انهم سيخافون من إشعالها في البيت، وهذا ملاذ آمن لهم، تخيل بأنه جمع ثمن دجاجة يأخذها لبيته، وتطبخها زوجته وهي تشكر الله على تحسّن عمله.
وسط ما يشبه الغيمة البيضاء المتشكلة من الدخان، لمح وجه أحد الصغار وهو يسعل بلا توقف كأنّه يصرخ بلا كلمات ،بدا بأنه يوشك على الاختناق، كم يشبه ابنه بدر! تخيل للحظة بأنّه يسحب السجائر من أيدي الصغار ويهرسها على البلاط المتسخ ... قبل أن يُبعد تلك الفكرة ويواصل احصاء النقود!
 
 ألوان
اقتربت المعلمة مني وهي تبتسم على غير العادة و توجهت إلي بسؤال عن لوني المفضل، حاولت أن أحافظ على توازني فقد اضطربت خوفا من تخصيصي بسؤال خاصة مع وجود امرأة متأنقة تحمل ورقة وقلما وتسجل إجاباتنا في الصف قدمتها لنا المعلمة بأنها باحثة نفسية.
- ما كل هذا التفكير؟ الموضوع بسيط.
وسكتت كأنما تفسح لي مجالا للحديث؛ أحسستني في مأزق أردت الخروج منه بأيّ ثمن قلت كأني أسال: الأزرق؟
كنتُ أستفسر إن كانت إجابتي كافية لتعتقني لكنها سألتني: أتسأل أم تجيب؟
- أ..أجيب... الأزرق!
رفعتُ صوتي أكثر كأني أنوي الهرب، شجعتْها نبرة صوتي لتسأل: لماذا اللون الأزرق؟ خطر ببالي ان أجيب بأنه لون البحر لكن خشيت أن تسألني عن آخر مرة زرتُ فيها ما يسمونه بحرًا، ولا مرة! نعم ولا مرة فنحن لا نخرج للتنزه إلا ...
اصطدمتُ بعينيها وهما تحدقان بي بانتظار قلق قلتُ لها: إنه لون السماء حيث الله يرقب ما يحدث تحتها!
- مممم... - قالت بتمعن: يا لك من مفكر صغير!
المرأة الثانية كانت تمسك بقلم وورقة كأنّها تسجل ما يدور من حديث قالت وهي تتحدث عني كأني لم أعد موجودًا في الغرفة الصفية أو اختفيت فجأة من مقعدي الخشبي المُتقلقل إلى السماء مثلا: ترين تحليل الشخصية من خلال اللون! إنه أمر مدهش!
التفتت إلي ثانية شعرتُ بالحرج لا أحب الأسئلة الكثيرة، ما الذي تريده مني؟ قلت لها كمن يريد الخلاص من الموقف: أنا أحب الألوان كلّها!
انهالت أمامي صورة بسطة الملابس المستعملة متنوعة الألوان مختلفة القياسات و التي صار بمقدوري عندما استطالت قامتي أن أراها كاملة، والتي لا تسمح أمي بأن أختار منها كلّ الألوان ؛ فما تملكه من المال قليل، كانت الألوان تتداخل في ذاكرتي وتمتزج وأحس بها تستحيل بركة صغيرة، والمعلمة تسأل: لا، اللون المفضل فقط ،لا يمكن ان تحب الألوان كلّها بالدرجة ذاتها!
آه.. أرجعتني مثل لعبة» السلم والحية «إلى المربع الأول. قلتُ: الأزرق! إنه اللون الغالب على الكرة الأرضية.
تنهدت الباحثة وحدّقت بوجهي الصغير، ابتسمتُ بتلقائية لها وأنا أكمل: حيث الماء والسماء يلتقيان سرًا في الأفق وهناك تولد الحكايات وتتشكل الأزمان!
كنت أصغي لما أقوله أكثر دهشة من المرأتين، حتى طلبة الصف المشاغبين سكتوا للحظات؛ فاستجمعتُ قوتي لأضيف: هل يمكنني الآن الذهاب إلى الحمام؟