Friday 26th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    24-Oct-2020

رسالة إلى ميغيل دي سرفانتس

 القدس العربي-عبداللطيف السعدون

أكتب رسالتي هذه إليك في ذكرى ولادتك في 29 أيلول/ سبتمبر من عام موغل في الزمن، وكنت عرفتك وأنا صغير، لم أكن أعرفك باسمك، لكنني عرفتك باسم بطل ملحمتك «دون كيشوت»، واسم صديقه «سانشو»، وظلت صورتك مرسومة في ذهني منقسمة بين شخصيتين، دون كيشوت وسانشو، وأنت تقاتل طواحين الهواء، وتغامر في مواجهتها كأي عملاق يقارع العالم المحيط به ويصارعه، ومع مرور الزمن أصبحت أغبطك على لعبتك العبثية، وعندما كبرت عرفت عنك الكثير، وأدركت الحكمة من مقارعة طواحين الهواء، وإن كانت الحكمة قد تجيء للمرء متأخرة، قد يكون ذلك في نهايات العمر، متى يستخدمها إذن؟
أنت أيضا بلغتك الحكمة في آخر سنوات العمر، ولم تستخدمها لأن الموت أودى بك بعد أن كتبت السطر الأخير من ملحمتك الخالدة بزمن قصير، ولم يقدر لك أن تكتشف كيف احتفى العالم بها بعد سنين، وكيف تحول بطلك إلى «أيقونة» ينظر إليها الناس ليتأملوا سيرة الفارس الجوال، الذي يتنقل بين طواحين الهواء، والمدن الشريرة، ليخوض معركة غير متكافئة، وكل همه البحث عن العدل والحب والأمان.
لكن خصومك لم يجدوا في ملحمتك غير مزح كبيرة، وحماقات متناثرة في ألف صفحة، ولم يروا في بطلك سوى رجل أحمق، تعلم الفروسية من الكتب، وأحرقها انتقاما أو غرورا، وفي لحظة جنون ارتدى لباس الفارس، وحمل سيفه الصدئ، وزوادة متاع قليل، وركب حصانه الهزيل ليبدأ جولة مشوار لانهاية له، وزعم بعضهم أن الرواية، بصفحاتها الألف، احتوت حفنة ألعاب عبثية، وضعت في إطارات وقوالب فجة، وصيغت بعض فصولها على نحو لا يناسب ذائقة العصر، لكننك لم تنصرف لتردّ على هذه الترهات، ولم تصرف وقتا كي تسألهم عن سر هذا التحامل الذي لم تجد مبررا له.
لا عليك!
يكفيك أنك كنت تحلم بأن روايتك ستعمر لمئات السنين، وبأن الملايين سوف يقرؤونها، وسيكون بينهم قادة وزعماء ومفكرون، كي يتعلموا منها الحكمة، وها قد مرّ أكثر من أربعة قرون، والناس يستعيدونها كلما استعادوا ذكرى مولدك، يقرؤونها بشغف في احتفاليات عامة يذكرونك فيها بالخير. ولعلك سمعت عن فيليب الثالث عندما وقف على شرفة قصره يشاهد شابا مستلقيا على العشب، عند بوابة القصر، ومنكبا على قراءة كتاب يضعه بين يديه، وقد أثار استغرابه توقف الشاب عن القراءة بين هنيهة وأخرى، مقهقها مرة، ضاحكا مرة، وعلامات الانتشاء والغبطة بادية عليه، في حينها قال: «هذا الشاب أدركته الحكمة، وهو إما أن يكون مجنونا، أو أن يكون الكتاب الذي بين يديه هو مغامرات دون كيشوت»! ولعلك سمعت أيضا عن الزعيم اليساري الراحل هوغو تشافيز، الذي سن تقليدا في القارة اللاتينية للاحتفاء بك في أسبوع سنوي، توزع فيه ملحمتك، وتقرأ على مسامع الناس وتستعاد.
أما حكامنا فأنا خجل لأنهم لا يعرفونك، ولا يسألون عنك، وعزاؤك أنهم لم يتعلموا القراءة بعد. وأنا اليوم، وجمهرة من قراء عرب، نشعر بالانتشاء والغبطة وقد أدركنا أن بينك وبيننا أكثر من صلة، لقد قلت لنا أنك أخذت الحكمة من كاتب عربي متخيل اسمه «سيدي حامد بن الأيل»، وقيل عنك إنك تشبه أبا زيد الهلالي، أو هو يشبهك، ولعلك في تغريبتك متنقلا بين مدن الأندلس التي مازالت تحمل وقع خطواتنا تعرفت لكثير حكاياتنا، ولعلك أيضا ذقت من مراراتنا عندما قدر لك أن تحط رحالك في السجن، في مدينة من مدننا، في واحدة من الخطايا التي ارتكبتها الأزمان الرديئة بحقك، نحن أيضا مثلك لكم ذقنا مرارات السجون، على أيدي سجانينا الذين لم يعرفوا الرحمة، ولم يفقهوا معنى العدل، ولكم ارتكبت الأزمان الرديئة من خطايا بحقنا، وما تزال!
ما يجمعنا بك، يا سرفانتس، أكثر أن بطلك أصبح واحدا من رموزنا، ونحن نقارع الظلم في مدننا، ونصارع الطغيان، ونقاوم غزاة بيوتنا وسارقي ثرواتنا، ألم يصلك صوت شاعرنا الراحل ممدوح عدوان، وهو يخاطبك: «في هذا الزمن القاحل، نحن الفرسان، ماذا ظل من الفرسان بعصر تحسب أرباح العزة فيه، كما تحسب أرباح الدكان، ماذا ظل على الفرسان سوى الريش على أجساد طواويس السلطان، من ظل سوى من صاروا جبروت الطغيان».
ما نريده منك، هو أن تنهض من جديد، وتعيننا على مقاتلة طواحين الهواء، إذ «لم يبق سوى الأعداء، أشهر سيفك واضرب حيث تشاء، حيث تجيء الضربة فهناك الأعداء». ورغم ذلك، سنظل نقاتل كما فعلت، نقاتل طواحين الهواء، نقاتل فقط كي لا نخجل من أنفسنا، وكي نجرؤ أن ننظر في عيون أبنائنا، وكي لا يقال عنا أننا خنا أمتنا!
ميغيل دي سرفانتس، سلاما!