Sunday 28th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    01-Mar-2024

السنديانة السعافينية عن (سلالة السنديان) السيرة الذاتية للدكتور إبراهيم السعافين

 الدستور-د. فاطمة البريكي/ جامعة الإمارات

«لقد عركتُ الحياة وعركتني، وعرفتُ الناس على أنحاء معيّنة، ورؤيتي لكل شيء نابعة من النظر إلى جوهر الإنسان الذي أراه مزيجًا من الخير والشرّ؛ فقد أُسرفُ في الحب ولا أُسرفُ في الكراهية، وأحب دائمًا أن أصفح وأتجاوز وأنسى، وأذكر الجميل والطيب والصادق في الإنسان».
لم أستطع تجاوز هذه الفقرة من مقدمة السيرة الذاتية للدكتور إبراهيم السعافين (سلالة السنديان)، لما تحمله من صدق في التعبير عن الذات، ذات الدكتور العظيم الذي يجمع في قلبه ما يساوي كل ما في هذا العالم من خير، وحب، وتسامح. وهذا ما سيلمسُه أي قارئ -حتى من لم يعرفه في حياته، أو لم يلتقِ به- في كل صفحة، بل وفي كل سطر من سطور هذه السيرة الغنية التي تفوح بعبق حسن الخلق، وبطيب حميد الخصال.
أما نحن الذين نعرف الدكتور منذ أن عرفنا اللغة والأدب العربي، أو ربما عرفناهما عندما التقيناه وعرفناه، وتفتّح وعينا بهما على يديه، فنجد أن أهم ما تتميز به هذه السيرة هو أننا لا نسمع فيها صوتًا مختلفًا عن صوت الدكتور السعافين المألوف، بكل ما فيه من تواضع، وحب، وإيثار، ورغبة صادقة في العطاء والنفع، دون انتظار مقابل.
أخذتني هذه السيرة لعالم أشبه بالحلم، وشعرتُ بصعوبة العودة للواقع مرة أخرى، ومع تحليقي في فضاءات الحلم لم أشعر بأي تكلف في السرد، أو تصنّع في المواقف، هو يحكي بصدق مسترجعًا ما حدث بتحديد الزمان والمكان بدقة غالبًا، بلغة «سعافينية»، راقية رغم بساطتها، دون أن يضع نفسه في موضع البطولة في كل موقف، أو يستأثر بتسليط الضوء على نفسه على حساب من شاركه اللحظة التي يحكي عنها، فهو في معظم المواقف يقدم نفسه جزءًا من صورة كُبرى، لكنه لا يدرك بتواضعه ونُبله الأصيلين في شخصه، أنه الجزء الأهم، الذي لولاه لن تكتمل تلك الصور، ولن يكون للموقف كله قيمة تُذكر.
ويتفاجأ القارئ بأنه كثيرًا ما يحكي مواقف قد يغفلها -عمدًا- غيرُه ممن لا يتمتع بالثقة في النفس التي يتمتع بها الدكتور السعافين، فقد ذكر تلك المواقف في سياقها الذي جاءت فيه ببساطة، وكأنه لم يفكّر حتى في الأمر، ولم يتردد في كتابتها أو عدم كتابتها، من مثل الحديث عن بعض المناصب الإدارية في الجامعة التي عُرِضت عليه ووافق عليها، لكن الأمر لم يتم لسبب أو لآخر، أو حين رُشِّح لرئاسة فرع رابطة الكُتّاب الأردنيين، فوافق ثم قدّم استقالته بعد أن شعر أن الهيئة الإدارية تميل لغيره، وغيرها من المواقف التي يدلّ ذكره لها بكل صدق وشفافية على رسيس الثقة التي يتمتع بها من جهة، وعلى ضيق تلك المناصب عن احتوائه من جهة أخرى، وعلى تواطؤ الظروف مع الجانب العلمي في شخصيته من جهة ثالثة، بحيث تهيأت له ليبقى لصيقًا بالفضاء الأكاديمي، من تدريس وبحث علمي ومؤتمرات، فتيسّر تعيينه رئيسًا لقسم اللغة العربية وآدابها في عدد من أعرق الجامعات العربية، وهو منصب أكاديمي يفوق في أهميته العلمية الكثير من المناصب الإدارية العليا، وتيسّر كذلك تعيينه نائبًا لعميد كلية الدراسات العليا لشؤون الكليات الإنسانية والاجتماعية، ثم مديرًا لمكتبة الجامعة الأردنية، وفي كل هذه المناصب ما فيها من اتصال مباشر بالبحث العلمي وعالمه ومصادره، في حين تضاءلت المناصب الإدارية أمامه وحادت عن طريقه.
وفي سياق الحديث عن شخصيته كما عرفتُها منذ بداية معرفتي به قبل أكثر من خمسة وعشرين عامًا، لا بد أن أتوقف عند عنوان سيرته الذاتية الذي قرأته برمزية مختلفة عن رمزية التلقي الأول له؛ الذي يحيل إلى شجرة السنديان أو البلوط الشائعة الانتشار في جبال فلسطين، وإثبات انحداره وانتماء جذوره لتلك الأرض التي ما فتئ يذكرها بلسانه وقلمه.
لقد بدا لي -من زاوية أخرى- عبر صفحات هذه السيرة وكأن هذا العنوان يشير لسنديانة العلم والثقافة والأدب، السامقة الشامخة، التي يستظلّ بفيئها كل طالب علم أو صاحب قلم، فما يلبث أن يصبح جزءًا أصيلا من نسلها، كيف لا «والعلم رحم بين أهله». وقد انتشرت سلالة السنديانة السعافينية في مشارق الأرض ومغاربها، تثمر علمًا، وتظلّل دروب الجهل، وتخضّر صحارى الغياب.. وهذا هو أول شبه بينه وبين شجرة السنديان.
كما يوجد شبه ثانٍ يمكن ملاحظته بسهولة، وهو القوة العلمية التي يتمتّع بها طلبة الدكتور، وقدرتهم على تمثيل أنفسهم وأستاذهم بكفاءة، ونقلهم العلم الذي حصلوا عليه من جيل إلى جيل سيرًا على خطى أستاذهم الذي أسّسهم تأسيسًا مكينًا، وقدّم لهم العلم بحبّ، وبرغبة صادقة وخالصة في العطاء، وعلّمهم أن «زكاة العلم نشره» ومشاركته مع الغير، وعدم احتكاره.
وقد أدرك طلبته أن هذا من مسببات البركة من جهة، وأنه -من جهة أخرى- من موجبات خلود السنديانة الأصل، السنديانة «السعافينية»، واستمرار عطائها، ودوام سيرتها العطِرة، لأجيال وأجيال، تمامًا كشجرة السنديان المعروفة بصمودها في وجه الظروف القاسية، وبقائها مثمرة معطاءة ولو بعد مئات السنوات، فساروا على دربه.
بقي أن أشير إلى شبه أخير بين شجرة السنديان والسنديانة السعافينية، وهو أن أوراق شجرة السنديان المتساقطة في الخريف تتحول لألوان مختلفة ما بين الأحمر الداكن، والأحمر البرتقالي، والبني، والبني الذهبي، وكذلك أوراق السنديانة السعافينية، التي تتساقط منها ألوان مختلفة من العلم والأدب: تأليفًا، وتحقيقًا، وترجمة، وإبداعًا أدبيًا: شعرًا ورواية وأدب طفل.
لكن، وحتى لا أوصف بالمبالغة أو التوهُّم في رؤية مواضع الشبه بين السنديانتين دون رؤية الجوانب المختلفة، أود أن أشير إلى وجود اختلاف واحد بينهما، وهو أن تساقط الأوراق في الأولى يعني النهاية، فكل ما يسقط لا يمكن أن تستفيد منه الشجرة نفسها أو أي شجرة أخرى، أما ما يتساقط من أوراق الثانية فهو يعني حياة جديدة، وفائدة تعمّ على نطاق أوسع.
قبل الختام..
حين انتهيتُ من قراءة هذه السيرة اختلطت المشاعر في نفسي، فكان أولها الإكبار والتقدير والإجلال لأستاذي الفاضل، وأستاذ الجميع شرقًا وغربًا، ممن تتلمذ على يديه فعليا في القاعة الدرسية، أو من تتلمذ عليه عبر قراءة كتبه وأبحاثه ومقالاته.
وكان ثانيها شعور الفخر بكوني طالبته في البكالوريوس، والماجستير، والدكتوراه، وإن كان قد درّسني فعليًّا في مرحلة الماجستير وأشرف على رسالتي، لكن آثاره الطيبة كانت موجودة في ما سبق ذلك وما تلاه؛ فقد كان رئيس قسم اللغة العربية وآدابها حين كنت طالبة في مرحلة البكالوريوس في جامعة الإمارات في العين، وتعلمتُ منه الكثير لكني لم أحظ بشرف الدراسة على يديه حينها، لأنه لم يمكث أكثر من عام واحد. وحين سافرت إلى الأردن والتحقت ببرنامج الماجستير في قسم اللغة العربية وآدابها في الجامعة الأردنية كان هو رئيس القسم هناك، فحزتُ شرف التتلمذ المباشر على يديه، والإشراف على رسالة الماجستير. ومع أنه غادر إلى جامعة الشارقة ليكون رئيس قسم اللغة العربية وآدابها فيها بمجرد قبولي في برنامج الدكتوراه في الجامعة الأردنية، إلا أنه كان حاضرًا معي في جميع خطواتي نحو أطروحتي، من اختيار العنوان حتى المناقشة، ولم يبخل عليّ بعلمه ونصحه مع أن مشرفي كان قامة علمية وأدبية وثقافية كبيرة أيضا، وهو الدكتور ناصر الدين الأسد، عليه رحمة الله.
ومن المشاعر التي لازمتني أيضا حين انتهيتُ من قراءة السيرة هو شعوري بقدر كبير من الحنين -وقد كتبت عبر خاصية «القصة» على حسابي في الإنستاغرام أنني أشعر بحنين لزمن لم أدركه، وهذا ما بدا لي غريبًا، أن أشعر أنني جزء من زمن لم أكن جزءًا منه أساسًا، لأنه بدأ وبلغ أوجه قبل ولادتي-، ربما شعرتُ بالحنين لما تمنّيتُ أن أكون منه، لزمن أَزْهَرَ بوجود قامات أدبية وثقافية، تتخذ من العلم المتين أساسًا لها، مع إحساسهم -تواضعًا- «بالجهل» كلما ازدادوا علمًا، وكنتُ أتساءل بين صفحة وأخرى السؤال نفسه:
هل يمكن للحياة الثقافية التي يصفها الدكتور السعافين في سيرته هذه أن تتكرر؟
وهل يمكن أن تجتمع القامات -أو من في مقام تلك القامات حاليا- في ظروف زمانية ومكانية موحّدة كما كان يحدث في ذاك الزمن؟
لا أنكر وجود القامات العلمية والثقافية في زمننا أو في أي زمن، لكن تقاطعات الزمان والمكان التي جمعتها على النحو الذي ورد في (سلالة السنديان) هو الذي لفتني، خصوصًا أنها كانت تقاطعات متكررة مع اختلاف المدن والسنوات خلال فترات متقاربة.
وختامًا..
لن يفوتني أن أشير إلى أنني حظيتُ بشرف توقيع الدكتور إبراهيم السعافين على النسخة التي أهداني إياها بلطفه وكرمه المعهودين، وقد كتب بخط يده الأنيق: «ابنتي العزيزة الدكتورة فاطمة البريكي.. مع كلّ المودّة والتقدير»، ثم أتبع هذين السطرين بتوقيعه، وأرّخ: 6/11/2023.
وقد كانت سعادتي كبيرة جدا بهذا الإهداء الذي يضعني حيث يتمنى أي طالب علم أن يكون، بمنزلة الابنة.. والعزيزة، وهو إثبات خطي بانتمائي لسلالة السنديانة السعافينية، ولا أملك إلا أن أفخر به، لكنني حين قرأتُ السيرة، واكتشفتُ وجود اسمي ثلاث مرات في مواقف مختلفة على صفحاتها، وهو ما لم أتوقعه إطلاقًا، آمنتُ أن ذلك الإثبات الموجود على صفحة الإهداء ما هو إلا جزء من سجلّ أكبر يثبت هذا النسب.
لا يمكنني وصف فرحتي مع كل مرة أجد اسمي مكتوبًا أمامي على صفحات كتاب كنتُ أقرؤه بعيون القلب لشدة ما أثار عاطفتي، لكني شعرتُ في كل مرة أنني عدتُ طفلة صغيرة تكاد تطير سعادة لثناء أستاذها عليها، إذ ناديتُ ابنتيّ: سما وماريا في كل مرة للإشارة إلى اسمي على الصفحة أولا، ثم لقراءة ما كتبه أستاذي ووالدي عني ثانيًا.
تكرر ذلك الفخر ثلاث مرات، فخري بمكانتي عند أستاذي، وفخر بناتي بي لتميزي وحظوتي عنده، واستحقاقي لكل ذلك... استحقاقي لأن أكون من سلالة السنديانة السعافينية!