Thursday 28th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    11-Aug-2019

دونالد ترامب يجلس على مقعد جيفرسن*محمد بدر الدين زايد

 الحياة-منذ أيام أعدت قراءة بعض صفحات من كتاب قرأته منذ عقود، وذلك خلال محاولة فاشلة معتادة لترتيب بعض الأوراق والكتب، والكتاب معنون باسم "حياة الفكر في العالم الجديد"، للمفكر الراحل صاحب التأثير الأكبر عندي الدكتور زكي نجيب محمود، وكانت هذه الصفحات حول الإسهام الفكري للرئيس توماس جيفرسون، الكاتب الرئيس لإعلان الاستقلال الأميركي، والحقيقة أنني بمجرد إعادة قراءة هذه الصفحات المكتوبة بتركيز شديد، والتي تعاملت معها عشرات المرات في مناسبات عدة، فإنه في هذه المرة قفز إلى ذهني خاطر واحد، هو كيف يجلس دونالد ترامب على مقعد سبقه إليه جيفرسون.

 
 
وللتذكرة حول فكر وإسهام توماس جيفرسن، الذي يعرفه كل من درس أو أهتم بالعلوم السياسية والفكر السياسي هو أحد الآباء المؤسسين للإعلان الدستوري الأميركي، وهو بشكل خاص العقل الرئيسي الذي صاغ وكتبه ووقعه ضمن هؤلاء الآباء، وبعدها عمل كحاكم لولايته فرجينيا حيث أضاف وثيقة أخرى مهمة وهي وثيقة الحرية الدينية، ثم أسس جامعة فيرجينيا في أواخر القرن السابع عشر، معتبرا التعليم والوعي هو الضمان الأكبر للحريات الفردية والحفاظ عليها، ثم ترشح للانتخابات الرئاسية عام 1800، مستهلاً ذلك بعبارته المشهورة "لقد عاهدت الله أن أكون إلى آخر الدهر عدواً للطغيان في شتى صوره، الطغيان الذي يستبد بعقل الإنسان"، حيث خاض معركة ضد التيار المحافظ وخاصة الديني، وانتصر فيها وتولى رئاسة بلاده، تاركاً إرثاً عظيماً ليس فقط لبلاده، وإنما كذلك للبشرية كلها، فيما يتعلق بالدفاع عن الحريات وحرية العقل والعقيدة.
 
ولقد لخص جيفرسون حياته، عندما سئل عن ما يوضع كشاهد على قبره فقال: "إعلان الاستقلال، قانون الحرية الدينية، وجامعة فرجينيا". وكما لخصها الدكتور زكي نجيب، فبالأول يزيل استبداد الحكومة، وبالثاني يحرر العقل من سلطان الكنيسة، وبالثالث (أي التعليم) تصان الحرية التي يكتسبها الناس في السياسة والدين.
 
وفي الحقيقة أن ما تبادر إلى ذهني للوهلة الأولى كان حتى مناقضاً لما كتبته في هذا الموضع وغيره حول ترامب، ففي واقع الأمر أنني كتبت كثيراً عن أن ترامب يمثل تياراً يمينياً عميقاً في السياسة الأميركية كان يناهض التيار الذي يمثله جيفرسون. وتاريخياً كلاهما لم يكن قط قادراً على حسم المواجهة الفكرية والسياسية في المجتمع الأميركي، وكان هذا التيار اليميني المحافظ قادراً على عرقلة تحرير العبيد في المجتمع الأميركي لعدة عقود تالية للاستقلال، ما تسبب في نشوب حرب أهلية بغيضة ومكلفة بين الشمال والجنوب، ما كان الشمال برئاسة لينكولن سينتصر فيها لولا أن جانباً من مصالح اليمين الأميركي المحافظ وحاجات التحول الاقتصادي من الإقطاع إلى استكمال الثورة الصناعية كانت تقتضي تغيير أنماط الاقتصاد في الولايات الجنوبية، ما ساعد في تركيز الجهود والموارد لإنجاز هذا الهدف.
 
ومع ذلك فإن انتهاء نظام العبودية لم يؤد إلى انتهاء التفرقة العنصرية، التي هي أحد تداعيات هذا الفكر اليميني والعنصري، وليس صحيحاً أن مظاهر التفرقة العنصرية استمرت في الجنوب وحده، الفارق كان في الدرجة وفي مستوى التحضر والأسبقية وانتشار مكونات الفكر التحرري الأميركي في المدن الكبرى سابقاً على تلك الصغيرة والريفية، وهي مفارقة ما زالت قائمة من ضعف سيطرة هذا اليمين المتشدد في أغلب المدن الكبرى حيث التوجهات الأكثر تحرراً وليبيرالية.
 
من هنا نتفهم لما استغرقت حملة الحقوق المدنية للسود سنوات طويلة حتى استقرت هذه الدعاوى دون أن تنتصر بشكل كامل، ولتستمر بعض مظاهر العنصرية حتى اليوم في أشكال مختلفة ليس فقط من التمييز بل حتى من العنف، شاهدها أعمال العنف الأخيرة. ومن هنا نفهم كيف أصدر ترامب تصريحاته العنصرية ضد النائبات الديموقراطيات من الأقليات المختلفة، سواء مسلمين أو عرباً أو من ذوي الأصول اللاتينية، صحيح أن ردود الفعل ضد ترامب كانت صاخبة وحادة، ولكنها هدئت نسبياً الآن ليس فقط لأن هناك كتلة أميركية ضخمة أسعدتها هذه التصريحات، وإنما أيضاً لأن معارضيها يعرفون أن النضال ضد هذه الكتلة ما زال أمامه الكثير من الوقت.
 
ربما يضيف إلى هذه الصورة السابقة تجربة أخرى للإسهام الأميركي الفكري لمنظومة حقوق الإنسان الدولية، والتي كان لرئيس أميركي تالي لجيفرسون بأكثر من قرن من الزمان وهو وودرو ويلسون إسهام كبير في هذا الصدد، عندما أصدر مبادئه الأربعة عشر التي تحولت إلى أسطورة ومسعى من جانب بعض المجتمعات المستعمرة كمصر من أجل تحقيق الاستقلال عن بريطانيا، وقصة ذلك المعروفة من سفر وفد بزعامة سعد زغلول إلى مفاوضات تسويات الحرب العالمية الأولى في فرساي ولمقابله هذا الرجل الذي أصدر هذه المبادئ ويلسون، ولكن الأخير خذل المطالب المصرية واستسلم لضغوط بريطانيا وفرنسا، ومن المضحكات هنا أن بعض دارسي المفاوضات الدولية عزوا استسلام ويلسون، وعدم تمسكه بمبادئه إلى مشاكل صحية أضعفت من قدراته التفاوضية، غافلين عدم منطقية هذا لو كان الأمر يتعلق بمصالح جوهرية أميركية، وفي الحقيقة أن ويلسون لم يتشبث بهذه المواقف لأنها لا تمثل مصالح حيوية لبلاده وربما أكثر لأنه يدرك انقسام بلاده بهذا الصدد، وهو ما حدث بالفعل ولم تنضم واشنطن إلى المؤسسة الدولية التي لعب ويلسون الدور الأكبر في صياغة طروحاتها وأفكارها في هذه المفاوضات وهي عصبة الأمم.
 
ما أريد قوله أن ويلسون كأوباما كانا يدركان أن في مواجهة هذه المبادئ التي يؤمنان بها والتي هي امتداد للتراث العظيم الذي تركه توماس جيفرسون، أن هناك كتلة أميركية ضخمة تتخوف من أفكار الحرية والليبيرالية وتواصل عنصريتها وتعاليها على الآخرين، على أن المؤسف أن كلا الرجلين (أي ويلسون وأوباما) لا يمانعان في توظيف آلة السياسة الأميركية لهذه المبادئ الليبيرالية لتحقيق مكاسب للسياسة الخارجية الأميركية أو لمصالح اقتصادية أميركية.
 
من هنا ليس غريباً أذن أن يجلس ترامب في مقعد جيفرسون، ما دام الصراع بين منظومتي الفكر ما زال مستعراً، ولم تتمكن بعد البشرية من حسمه لا في المجتمع الأميركي ولا غيره، ربما حقق البعض نجاحاً نسبياً أكثر في بعض بلدان أوروبا الشمالية ولكن يبدو أن الوقت ما زال مبكراً لحسم هذا الصراع نهائياً، ومرة أخرى التاريخ لم ينته والبشرية أمامها الكثير من أجل تحقيق عالم أفضل وإن كانت تداعيات الصراع والتنافس وآثار التقدم التقني المهولة تعقد من الأمور ولكل هذا حديث لآخر.