القدس العربي-سمير الخليل
لما كانت سرديات القاص حسب الله يحيى الأولى قد تأثرت كثيراً بالواقعية الاجتماعية والواقعية الاشتراكية، فلا عجب أن تهتم قصصه الأولى واللاحقة بوضوح المعنى، وكشف المقصديات المباشرة ومواضيعها غير المعقدة، بأسلوب يتسم بأقصى ما يستطيعه من شفافية وبساطة.
في مجموعته القصصية الأخيرة «أصابع الأوجاع العراقية» الصادرة عن دار الشؤون الثقافية ـ بغداد 2017، والتي تحمل الرقم (17) في مؤلفاته القصصية، يكشف لنا حسب الله يحيى كل ما تعلمه واختزنه من خبرة الواقعية النصوصية، فشكل القصة القصيرة عنده لا يعدو أن يكون نتيجة التفاعل الجدلي بين البنية الكتابية (المعمار) والكليّة المقصودة لعملية القص البدئية، وليس الشكل سوى معمار في طريقه إلى التكامل، حالما تحل الخاتمة – خاتمة القصة. فالخاتمة عنده هي التي تحل كل العقد وتفرش الحبكة بكل توتراتها وتشابكاتها.
مثل هذه الأفكار تقودنا إلى قراءة المجموعة القصصية، على أنها الواقع المعيش، وقد جُلب إلى الورق بكامل خاماته، إلى قراءة قريبة من اليوميات التي دوّنها مراقب مثقف عن تشوفاته لما حدث وجرى في مدينته الموصل، في لحظة سياسية مصيرية فاصلة بين ما كان وما سيكون، لحظة احتلال «داعش» لمحافظة نينوى، وإطباق كابوس الإرهاب السلفي عليها.
كما أن المؤلف أكد لنا، قصة بعد قصة، على أننا لا نستطيع فهم إلا ما هو معروف لدينا، وموجود على أرض الواقع المبتلى، وإن كان ذلك بأسلوب حكائي متقطع، مجتزأ، حقيقي أو مبالغ في حقيقيته، أو أغرب من الخيال، لكنه حدث هكذا، وجرى على هذا النحو، لأنه رصد(فوتوغرافي- تسجيلي) لوقائع عنفية إرهابية، فيمكن تسمّيته وتوصيفه، حسب بنية الجسد الإنساني، وهذه البنية ترتبط بزمن اقتراف الجريمة، والأصابع هي الجزء المنفذ للجرائم، هي التي تقترف، وهي التي تتلطخ بالدماء، وهي التي تتهم في نهاية الأمر، وقد سنّت حول إدانتها القوانين والتشريعات الوضعية أو السماوية.
لماذا هذا التركيز على الأصابع ومعاملتها وكأنها الجسد كله، والمسؤولة عن كل الارتكابات التي يقترفها العقل البشري غير السوي؟
إن الفهم التأويلي بطبيعته يتخلف دائماً، ففهم الشي يعني أن المرء يدرك أنَّه كان يعرفه دائماً، وأنه يواجه في الوقت نفسه سر هذه المعرفة المخفية، وفعل الفهم فعل زمني له تأريخه، لكن هذا التأريخ يفلت دائماً من العملية الإجمالية. ونقرأ خاتمة القصة الأولى «أصابعي التي لم تعد أصابع» :»كنت محاصراً بي وبأصابعي، كنت لو لم أكن أبداً، كما لو أنني غير موجود في هذا العالم المليء بالحركة والشدو والانشراح، كنت في يوم ما إنساناً كاملاً، وفي يوم ما بت أعتقد بعد ما حدث بأنني سأشفى، وفي يوم آخر، بت أدرك أنني لم أعد ذلك الإنسان الذي أعرفه، وإنما كائن غريب عني، وبعيد، بعيد عني».
وهذا الفصل بين تأريخ الفهم وفهم التأريخ يتميز به الفاعل عند حسب الله يحيى، الذي يرتبط بالاعتقاد، لكن الكاتب، يختم الأمر عن طريق فعل الإيمان بقوة الحياة، ولا تستسلم إزاء الموت العبثي، ولننظر إلى منطوق خاتمة القصة الثانية «أصابع القتل والدفء» : «هو، هو حي، هل هو سالم، ألم يصب بأذى؟ لم تكن تصدق أمه أن رضيعها بين يديها وأصابعه فوق صدرها، وأنفاسه على أنفاسها، وقلبه ينبض بالحياة. شدته إلى صدرها، وراحت ترضعه، سترت امرأة عري صدرها، كنا جميعاً نتوزع في حالتين، فرحه بطفل يحيا، وتشفياً برجل كان يريد قتل الحياة (الانتحاري)».
إن المؤلف يزيد من محنة شخصياته، عندما يضعهم في مواجهة مصيرية، إذ يلاحظ القارئ في قصة «رحيل أفلاطون» التخلف أو الانقطاع بين الخبرة الدلالية والإجمالية الإدراكية، تتجسم بلاغياً في فكرة «الخراب» التي يعدها نقيضة للاستقرار، بوصفه تعبيراً عن الوحدة بين الوظيفة التمثيلية للحياة الجادة، والوظيفة الدلالية لحب الحياة (الوظيفة التمثيلية للقصة الجادة والوظيفة الدلالية لقراءتها). ويستنتج القارئ لهذه القصة القصيرة أن أكثر اللحظات عمقاً وأصالة في العمل الأدبي، حين يسمع فيها صوتاً أصيلاً، هو صوت المعلم الذي يعرف موقعه جيداً وهو يتحرك بين نقطتي الضرورة والواجب، ضمن حدود مهنته التربوية والتعليمية، وفي وقت المحنة والاختيار، يعرف قدره جيداً عندما يقيّم قدرته المحدودة: «الآن يتذكر جيداً أن المدير نصحه بتغيير الدرجة، مثلما وعّاه المعاون وعدد من الأساتذة إلى إعادة تصحيح دفتر الطالب ذاك ، ونزولاً عند طلبهم راجع أجوبة الطالب مراجعة دقيقة، ووصل إلى قناعة أن الدرجة التي اتخذها كانت صائبة، وليس بوسعه تغييرها أبداً… أحس بالمحنة أمام نفسه وزملائه، وهو الذي يعد نفسه أخلاقياً على الطريقة الأفلاطونية الحازمة.. ترى هل كانت تلك العاصفة تحمل معها هذه الرصاصة، وكلمات التهديد؟ ليس بمقدوره الخروج عن المألوف الصحيح والحريص والعادل، الذي يحترم نفسه من خلاله. وعلى عجل أعد نفسه للرحيل».
إنه يصور الذات في محنتها الزمنية والأخلاقية الحقيقية، وبذلك يظهر جنوحاً نحو «الغضب» ويستنتج أن أكثر أنواع الفهم القرائي اكتمالاً، إنما هو ذلك الذي يقر بتخلفه، وبذلك يدمج فكرة تصوره في استنتاجه، فكيف السبيل إلى جعل الخراب استقراراً؟ كيف التعامل مع الخراب والألفة معه على أنه أمر واقع ومصادرة على المطلوب؟ كيف يطيق الحياة وسط الحياة وسط شروط قاسية أسهلها مرّ كالعلقم؟
هذه الأسئلة وغيرها الكثير حفلت بها قصص «أصابع الأوجاع العراقية»، وقد صاغ القاص حسب الله يحيى، بعض الأجوبة على طريقته الاجتماعية ـ الاشتراكية كعادته.
٭ ناقد وأكاديمي من العراق