Thursday 28th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    17-Sep-2020

زفاف على حافة الموت

 الدستور-بكر السباتين

كان يذهله أنه في نظر الآخرين عجوز خرف ومتصاب.. لذلك كانت تضحكه بلاهة ابن جيله الحاج عبد القادر، والذي اعتاد على نعته بالمستهتر الذي لا يحترم عمره!
وكان يرى بأن الحاج عبد القادر يداري وهنه، إذ لا يصلح إلا مسكناً لأمراض الشيخوخة:
«الحاج عبد القادر ..! فهل يقوى على العشق مثلي؟ بل ستنهار مداميكه لو جرب ذلك !»
كاد يضحكه ذلك، لولا ارتعاش جسمه النحيل لنوبة ألم
أصابته ..فاستجمع إزاء ها كل ملامح وجهه المترهل بين عينيه الغائرتين في تقطيبة مخيفة.. ورغم ذلك.. تسللت إلى وجهه الشاحب بقية لضحكة مكبوتة .
وذات يوم.. صادف العجوز معشوقته أمام بيتها.. فدبت فيه روح جديدة.. حتى كاد نظره الضعيف يصورها له كبقرة سمينة، فيجاهد كي يستجلي طلتها.. ثم يقترب منها أكثر، حتى تأكد منها، لقد كانت معشوقته.. وازداد يقينه من ذلك، وهي توصد الباب في وجهه ببطء ودلال، فتطلق ضحكة مجلجلة، فيما جعلت تسجل ذاكرته جذوة تلك اللحظة الملتهبة..
يتخيلها قادمة إليه من بين ركان العمر المتهالك حتى تحول إلى أطلال بشرية قست عليها الحياة وعربدت في تفاصيلها الأمراض المزمنة.. فها هي تخترق رأسه المتعب بجسدها المثير، فترمقه بطرفي عينيها الكحيلتين، وينجذب إليها، فتغلق الباب دونه، وكان رنين ضحكتها قاسياُ، فيشده ذلك إلى وهم الانتصار.
أمسى رأسه المتعب نهباً لهواجس الحب والشباب، يتكيف بما لديه، ويسير متكئاً على بقاياه.
كانت أفكاره مترنحة بين النشوة والرعونة، وقلبه المريض الواهن يدق أبواب النهاية، و(الروماتزم ) يتسلل إلى عظام أنهكها وهو واقف أمام الباب منتظراً معشوقته.
هذه الأفكار المتدحرجة كالرعد في سماء متلبدة بالأوهام فجرتها تلك المعشوقة المراوغة في رأس العجوز، كأنها عشتار تتمطى على فراش الغواية دون قمح يطعم اليباب من نعيمه، فيصاب العجوز المتصابي بالصداع، ثم يشعر باقتحامها لذاكرته، فتتعملق بانسجام مع أحلامه، فيما أخذت ترقص بنشوة فوق إطلال ذاكرته المترهلة، فأحس بالانتعاش.. واستعاد بقايا شبابه الآفل..
ربما ثارت ذاكرته المهملة لنفسها، معبرةً عمّن فيها حينما استباحتها تلك المعشوقة التي طوقت جيدَها المرمري أحلامُ الزمرد والياسمين.. وكأنها شيء ماثل بين يديه.. فيتصورها وهي تغلق الباب، أو ترقص أمامه شبه عارية، فتماحك أحبابه الذين تداعت صورهم إلى ذاكرته المرهقة.. فيما هو ممسك رأسه بكلتي يديه.. وقد انتابه إحساس الضال الذي روّعه هذا القتل لذاكرته المستنزفة.. فينهكه السؤال:
أمن أجلها.. تهشم وجوهاً أحبتك، وماتت لأجلك؟
كانت وجوه مهشمة راحت تمطّها ضحكات عشتارية فاضحة، أحس بالرومتزم ينخر عظامه ويصلّب مفاصل قدميه.. كان صراعاً أتعب عقله في ذاكرة راحت تتوارى عنها زهرة النور، إذ غطت المعشوقة كل الوجوه ومضغطتها ساخرة من شيخوخته.. وسادت على الذاكرة .. لا بل أخذت تمزقها موقدة نار اللحظات الملتهبة في مِزَقِ صوره المبعثرة.. المتطايرة في رأسه المصدوح ..
وتستمر معشوقته العانس بالتهام كل شيء، حتى ترهل بطنها الممتليء، فاندلق وتدلى.. وتباطأت حركتها.. ثم اخذت تتلاشى صورتها في ذهن العجوز.. وساد بعد ذلك الظلام ..
حاول العجوز دفع كوب الماء.. لكنه فشل.. وخذله قلبه الذي تسارع في الخفقان.. ثم عاد إلى فراشه واهناً لا يقوى سوى على الزحف البطيء.. ثم استراح!
لم يشعر بعد ذلك باليد التي غطته.. ولا بالراحة التي قاست حرارة جبينه المتفصد بالعرق الساخن.
تحجرت الدموع في مقلتيه.. فأسبل الجفنين.. وسبح في الظلام.. ثم ارتاح على هشيم الذاكرة.. بعد ما غاب عنه المحيط المتلاشي.
كان الحاج عبد القادر إلى جواره .. متمتماً في سره .
«رحمة الله عليك.. لقد ارتحت من هم الدنيا ..»
ثم غطى وجه الشاحب بالملاءة .. ساتراً عيب الموت في وجه نحيل وجسد متجمد في صقيع النهاية.