Thursday 25th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    03-Feb-2017

الهُويّات "الدّينيّة" و"القوميّة" و"الوطنيّة" وجدل "الضمائر" (1) - د. نارت قاخون
 
الغد- حين تغيب الهويّة الوطنيّة الجامعة، وتفقد "المواطنة الدّستوريّة والقانونيّة" كفايتها في تحقيق العدالة والمساواة بين جميع المواطنين، تصبح الهويّات "الدّينيّة" و"المذهبيّة" و"العرقيّة" و"القبليّة" مكوّنات تأسيسيّة أولويّة لا تكتفي بتفتيت الهويّة الوطنيّة، بل تمتدّ لتصبح الشّرط الضروريّ لتحديد "الأدوار الاجتماعيّة والسّياسيّة والاقتصاديّة". ومع تطاول الزمن والخضوع لهذه الهويّات وأدوارها، تتحوّل الأدوار إلى "نماذج اجتماعيّة"؛ فحين يلتقي "فلان" من هويّةٍ ما مع "علّان" المنتمي لهويّة أخرى، فإنّهما لا يكتفيان بالتعارف "الشّخصيّ" بل ينتقلان إلى التّعارف "الهويّاتيّ"، فيستدعي كلّ منهما ما يعرفه من عناصر تكوينيّة لنموذج الهويّة الاجتماعيّة ليسقطها على الشّخص الذي التقاه. وقد تتحوّل هذه النماذج إلى "أنماط اجتماعيّة" تتمتّع بقدر هائل من التبسيط والتعميم والثبات العابر للزّمان والمكان والظّروف، فيصبح جميع الأشخاص المنتمين لهويّةٍ ما صوراً متطابقة شكلاً ومضموناً وأدواراً، غالباً ما تقوم على تفوّق "هويّتنا" على "هويّات" الآخرين.
وحين يتكوّن مجتمعٌ ما من "هويّة مركزيّة قوميّة أو دينيّة أو مذهبيّة"، وأُخر "طرفيّات هامشيّة"، تمسي "الهويّات" معطيات "توتّريّة استقطابيّة" تدفع المنتمين إلى "الهويّات الطرفيّة" إلى تأكيد "هويّتهم"، فيكون البقاء على "الهامش والطرف" شرطاً متخيّلاً مُهيمناً لتحقيق "الهويّة الذاتيّة" وتحقّق "الذات" الفارقة عن الآخر، الحافظة لـ"الأصل" الممتدّ الذي تستمدّ "الهويّة الفرعيّة الهامشيّة" مكوناتها منها.
عندما يحاول أحد أفراد الجماعة ذات "الهويّة الطرفيّة الهامشيّة" الاندماج مع "الهويّة المركزيّة"، لينتقل من "الأطراف" إلى "المركز"، فإنّه يواجه بتحديات من فئتين: جماعته التي تركها في الأطراف، والجماعة ذات الهويّة المركزيّة.
أمّا جماعته التي بقيت في الأطراف رافضة الاندماج، فإنّها تبدأ بالضغط على هذا "المرتحل" من "الأطراف" إلى "المركز" كي يعبّر عن "هويّته الطرفيّة الهامشيّة" علناً وبوضوح، وإلا فإنّ الخزي والعار سيلحقه، ثمّ "النفي" عن "الهويّة الطرفيّة الهامشيّة". أمّا الهويّة الأغلبويّة المركزيّة، فتضغط عليه حتى لا يتجاوز المسموح من الأدوار لهويّته، ويقتصر الاحتفاء به بوصفه جزءاً من "الفلكلور" الموهم بالتّنوّع.
هذا الضغط يسعى إلى تأكيد مبدأين لا تستطيع "الهويّات" المحافظة على نفسها إلا بهما، وهما:
1. أنّ اندماج الهويّة الطرفيّة بالهويّة المركزيّة مستحيل؛ فالهويّة معطىً ثابت لا يتغيّر.
2. بما أنّ "الهويّة" أمر لا يُمكن تغييره، فلا بدّ أن يفخر كلٌّ بهويّته، ثمّ يعمل لصالح جماعته.
يشتغل هذان المبدأين أكثر ما يشتغلان حين تكون "الهويّة" مرتبطة بمكوّن "قدري جبري" لا خيار فيه نظريّاً وواقعيّاً، كالهويّة القوميّة والقبليّة. فالمرء لا يُمكنه أن يغيّر قومه وقبيلته؛ فهي "أقدار" لا تقبل التغيير، فلا بدّ من "الفخر بها" والعمل لصالحها.
حتى تلك "الهويّات" المرتبطة بـ"الاختيار" نظريّاً، كالدّين والمذهب والطّائفة، فإنّ هذين المبدأين لا يسقطان واقعيّاً؛ فالأديان وما يتفرّع عنها من مذاهب وطوائف تعمل وفق مفهوم "الهويّة القدريّة" التي لا تقبل التّغيير والاختيار؛ فتغيير "الدين" يواجه تحديات هائلة دينياً ومجتمعيّاً وسياسيّاً، إذ الانتقال من الأديان "ردّة" من وجهة نظر أهل الهويّة الدينيّة المنتقل منها، ممّا يجعل التحوّلات الدّينيّة أقرب للانتحار الاجتماعيّ.
وهنا يظهر "التناقض" في مبادئ "الهويّات الدّينيّة"؛ فانتقال "الآخر" إلى "هويّتنا الدينيّة" هو أمر محمود مشكور، بل هو غرض يجب السعي إليه عند الأديان الدعويّة التبشيريّة، لذلك نطالب بصوت مرتفع أن يحترم أصحاب الهويّات الدينيّة الأخرى حقّ أفراد منهم بالتحوّل إلى "هويّتنا الدينيّة". لكننا نواجه بغضب شديد وبطش أشدّ محاولة "أبناء الهويّات الدينيّة" الأخرى تحويل أفراد هويّتنا إلى هويّتهم، وكذلك نرحّب بالمتحوِّل إلينا، ونرفض ونمانع المتحوِّل عنّا.
إنّ غياب الوعي بديناميكيّة "التحولات الهويّاتيّة" بين المركز والطرف يجعل الخطاب الهويّاتي مغالطاً متناقضاً؛ فهو يسعى حين يكون "مركزيّاً" إلى اندماج الأطراف فيه، واندماج الهويّات الفرعيّة في بوتقة الهويّة المركزيّة، منطلقاً من حقّ الهويّة الأكثريّة المركزيّة في فرض هويّتها على الحيّز الجغرافيّ والثقافي الذي تسيطر عليه. ولكنها حين تكون "طرفيّة" فإنّها تسعى إلى تأسيس مبادئ احترام الأقليّات والأطراف وهويّاتها الخاصة الفارقة عبر رفض الاندماج والحرص على المسافة بين محيط الدائرة ومركزها.
ولعلّ هذا التناقض يقلّ ظاهريّاً في حالتين: الأولى، غياب الهويّة المركزيّة الغالبة، فيصير النّسق المجتمعي مكوّناً من هويّات فرعيّة لا تملك أيّ منها الهيمنة على غيرها، وفي الوقت نفسه لا تملك أيّ هويّة القدرة على إقصاء الأخرى، فيتحقّق نوع من توازن الضعف يجعل "العيش المشترك" خياراً ضروريّاً. والثانية، حين تكون السلطة السياسيّة بيد أفراد إحدى الهويّات الفرعيّة؛ حينها يصبح الانتقال إلى هويّة جامعة وطنيّة مثلاً، أو القبول بمبدأ التعدديّة الهويّاتيّة واحترام جميع الهويّات بغض النّظر عن الأغلبيّة والأقليّة خياراً فاعلاً لتحافظ "الأقليّة الحاكمة" على سلطتها باعتبارها تنتمي للهويّة الجامعة الناشئة، أو تنتمي لهويّة فرعيّة لا تستند إلى هويّتها في شرعيّة سلطتها.
والناظر في تاريخنا وواقعنا يلحظ أنّ الأزمنة التي ظهرت فيها إرهاصات "إنسانويّة" جامعة تتجاوز ولو بشكل جزئيّ التطرّفات الانتمائيّة للهويّات الدينيّة والقوميّة، شهدت حكمَ فئات تنتمي لأقليّات دينيّة أو مذهبيّة أو قوميّة تخالف انتماءات غالبية الشعوب المحكومة، فلم يكن من اليسير على هذه الفئات الحاكمة أن تؤسّس شرعيّتها السياسيّة والاجتماعيّة على الانتماء المذهبيّ والعرقيّ وحدهما، لأنّ هذا التأسيس سيصادم الانتماء الأغلبيّ، ولم يكن من اليسير أيضاً تحويل الأغلبيّة إلى الهويّة الفرعيّة التي تنتمي إليها الفئة الحاكمة، لذلك لجأت هذه الفئات الحاكمة إلى آليات متوازية تعمل على:
1. تحويل انتماء الفئة الحاكمة إلى انتماء لعائلة تتمتع في المخيال الشعبيّ بـ"قدسيّة" وقابليّة "السيادة". 
2. الانفتاح على الهويّات الأوسع اقتراباً من الهويّة الحضاريّة والإنسانيّة الجامعة، لما لهذا التوسّع من تخفيف لحدّة السؤال الهويّاتيّ الذي قد يُشكّل مأزقاً لهويّة الفئة الحاكمة الفرعيّة. لذلك كانت "القوميّة العربيّة" مقترحاً هويّاتيّاً عوض الهويّات الدّينيّة والمذهبيّة يحقّق لمجموعة من الهويّات الفرعيّة الدينيّة والمذهبيّة مساحات حضور أرحب.
وإذا كانت الهويّة "القوميّة" تحقّق الرحابة والتوسّع المتجاوز للهويّات الدّينيّة والمذهبيّة، فإنّها تقع في تضييق وإقصاء لمجموعات هويّاتيّة أخرى تنتمي للهويّة الدّينيّة دون الهويّة القوميّة العرقيّة، وهكذا نصبح مقابل مجموعة من التجاذبات والتوتّرات، فلدينا "الكرديّ المسلم" و"الشركسيّ المسلم" و"العربيّ المسلم" مثلاً، ولدينا أيضاً "المسلم العربيّ" و"المسيحيّ العربيّ" مثلاً آخر. وطالما بقيت "الديانة بمفهومها العقديّ الدينيّ الطقوسيّ" أو "القوميّة بمفهومها العرقيّ" فإنّ هذه التجاذبات والتوتّرات مرشّحة ليس للبقاء بل للنماء وزيادة التّوتّرات والانقسامات الدّاخليّة في بنية كلّ هويّة، فتصبح القبائليّة والمذهبيّة والطائفيّة بل ما دونها وأصغر منها مكوّنات حاكمة في تشكيل الهويّات وما ينبثق عنها من أدوار أو نماذج أو أنماط.
في المقالة المقبلة سأتحدّث عن إمكانيّات تجاوز هذه التوتّريّة الاستقاطبيّة لأسائل مدى إمكان إعادة تعريف الهويّات الدّينيّة والقوميّة بما يتجاوز المكوّن "الديانيّ المحض" من جهة، والمكوّن العرقيّ المحض من جهة أخرى، ومدى إمكان تحقيق "الهويّات الوطنيّة الراهنة" لروابط جامعة تتجاوز توتّرات الهويّات الدّينيّة والقوميّة، لأختم بحديث عن مفهوم الهويّة الجمعيّة بغض النّظر عن مكوّنها الجمعيّ ومدى ضرورته للإنسان بوصفه كائناً وفاعلاً اجتماعيّاً؛ فالهويّات نتاج جدل الضمائر وتدافعها وتداخلها؛ فهل الإجابة عن سؤالي "مَن أنا؟" و"مَن هو؟" فرعان عن إجابة سؤال "مَن نحن؟" و"مَن هم؟" بالضّرورة؟ 
قد يكون للحن العامّة والخاصّة في لفظ "الهُويّة" بفتح الهاء (الهَويّة) عوض ضمّها -وهو الصحيح لغة- دلالة لها بلاغتها؛ فالهُويّة بضم الهاء مصدر صناعيّ من الضمير "هو" المعبّر عن الذّات، بينما "الهَويّة" فهي "البئر البعيدة القعر"، فكم من هُويّات تحوّلت إلى "هَويّات" نغرق فيها ونسقط في لاقرارها وظلمتها، قد تروينا من "مائها"، ولكن تحجب عنّا أكثر الهواء ونور الشّمس.